بقلم: الدكتور محمد محاسن
في عالم يشهد تحوّلات متسارعة، لم تعد المؤسسات الجامعية بمنأى عن التحديات التي تفرضها التغيرات التكنولوجية، وضغوط التصنيفات الدولية، وتزايد متطلبات الجودة والمساءلة. ففي ظل هذا السياق المعقّد، تبرز مسألة القيادة الأكاديمية كعامل حاسم في صياغة مسارات التحول وضمان استدامة الإصلاح.
غالبًا ما يكون تغيير القيادات مطبوعاً بخلق قطيعة مع التوجهات السابقة، في مسعى لإثبات التميز أو من أجل إعادة البناء. غير أن هذا النمط، القائم على البدء من الصفر مع كل مرحلة جديدة، يترتب عنه استنزاف للموارد، وتبديد للجهود، وعرقلة للتراكم المؤسسي الضروري لتحقيق التقدم الفعلي.
الاستمرارية الواعية لا تعني الجمود
الاستمرارية، في هذا الإطار، ليست مرادفة للجمود، بل هي تعبير عن وعي استراتيجي يحترم ما تحقق من إنجازات، ويُقيّمها تقييماً نقدياً متوازناً. إنها دعوة إلى البناء على ما هو قائم من نقاط قوة، ومعالجة مكامن الخلل، بدلا من اللجوء إلى الهدم وإعادة التأسيس في كل مرة.
إن القائد الأكاديمي الرشيد هو من يملك القدرة على التمييز بين ما يجب الحفاظ عليه وتطويره، وما ينبغي تجاوزه أو إصلاحه. هذه الرؤية لا تُضعف إرادة التغيير، بل تمنحها الشرعية والفعالية، لأنها تتأسس على المعرفة العميقة و اعتبار السياق، لا على الانطباع أو الرغبة في التميز السطحي.
الفكر النقدي: شرط القيادة المسؤولة
لعل من أبرز ما تحتاجه القيادة الجامعية اليوم هو تبنّي الفكر النقدي كأداة للتقييم والتحليل، لا كوسيلة للرفض أو المعارضة. فالمساءلة الذاتية والقدرة على رؤية الصورة كاملة — بما فيها من نجاحات وإخفاقات — شرط أساسي لصنع قرارات رشيدة ومؤثرة.
إن الفكر النقدي يُمكّن القادة من الابتعاد عن القرارات الارتجالية، ويُجنبهم الوقوع في فخ إعادة إنتاج الإخفاقات. وهو بذلك يُمهّد الطريق أمام إصلاحات مدروسة، قائمة على تشخيص دقيق، واستشراف واقعي لمآلات كل خطوة.
الابتكار عبر التطوير، لا القطيعة
إن الابتكار الحقيقي لا يُقاس بمدى القطيعة مع الماضي، بل بقدرتنا على تحويل ما نملكه من خبرات وتجارب إلى فرص جديدة. فالمؤسسات الناجحة هي تلك التي تحوّل الذاكرة المؤسسية إلى طاقة دفع، وليس تلك التي تعتبرها عبءاً تاريخيا.
فالقيادة المبدعة لا تسعى إلى هدم ما بُني، بل إلى إعادة تشكيله، حيث إنها تضخ فيه أفكارًا جديدة، وتكشف ما يزخر به من إمكانات غير مستغلة فتسخرها من أجل الإصلاح والتطوير والتجويد. وهكذا يصبح الابتكار فعلاً واعياً، لا اندفاعاً نحو المجهول، وممارسة إصلاحية تتسم بالاستمرارية لا بالفصل والانقطاع.
نحو حكامة متوازنة ومستدامة
إن القيادة الأكاديمية في زمن التحولات الذي نحياه تحتاج إلى هندسة جديدة، تقوم على ثلاث ركائز مترابطة: الاستمرارية الذكية، والفكر النقدي، وروح الابتكار. إنها المعادلة التي تضمن استقرار المؤسسة دون أن تُكبّلها، وتفتح المجال للتجديد دون أن تُفقدها هويتها.
بهذا المنظور، تتحول الحكامة إلى مسار تراكمي، حيث يُبنى كل إنجاز على ما سبقه، وتتجدد الرؤية دون إنكار ما تحقق، ويصبح التغيير عملية نضج تدريجي، لا مجرد انتقال شكلي في القيادة ؛ وبالتالي، فإن بناء ثقافة قيادية مؤسساتية تُؤمن بالتراكم، وتُراهن على النقد البنّاء، وتُشجع الابتكار النابع من الخبرة، يُعد حجر الزاوية في أي مشروع إصلاحي جامعي طموح