الحق في الحركية الجامعية بين الإنصاف والبيروقراطية: نداء من أجل أنسنة القرار

الدكتور محمد محاسن يكتب حول:

الدكتور محمد محاسن

توطئة: القيادة الأكاديمية والقرار الإنساني

في مجال فلسفة القيادة الأكاديمية الإنسانية، يُنظر إلى الجامعة باعتبارها فضاءً حيًّا، يقوم على التوازن بين النصوص المنظمة والمؤسسة، وبين المصلحة والكرامة، وبين النظام والإنسان.

فالقائد الأكاديمي الحقيقي هو ذاك الذي يُحسن الإصغاء إلى نبض المعنيين بالقرار، ويوازن بين مقتضيات القانون وموجبات الرحمة، إدراكًا منه أن العدالة ليست دائمًا في التطبيق الحرفي لما خُطّ على الورق، بل كذلك فيما يتركه القرار من وقع على النفوس.

من هذا المنطلق، تشكل قضية الحركية الجامعية امتحانًا حقيقيًا لمدى نضج منظومتنا الجامعية في التعاطي مع قضايا الموارد البشرية، واختبارًا صريحًا لإنسانية الحكامة داخل الحرم الجامعي.

1)      حين تصبح الحركية اختبارًا للكرامة المهنية

أكاد أكون من القلائل الذين دافعوا بحرارة عن حق الأساتيذ الباحثين في الحركية بين الجامعات والمدن المغربية، دفاعًا عن مبدأ العدالة لا عن امتياز شخصي. لقد ناديتُ، محليًا داخل جامعتي” القاضي عياض”، ووطنياً ضمن الملف المطلبي للنقابة المستقلة للتعليم العالي، بضرورة التعامل مع هذا الملف بعقلانية وإنسانية، بدل الجمود البيروقراطي والتأويلات الضيقة التي تفرغ النصوص من روحها.

لقد اخترت أن أكون صوتًا لمن آثروا الصمت رغم ما يعانونه من حيف، لأن صمت الضحايا في حضرة الظلم لا ينبغي أن يكون خيارًا، بل جرس إنذار.

2)      من الأمل في الاستقرار إلى متاهة الانتظار

يجد الكثير من الأساتيذ الباحثين أنفسهم مجبرين على قبول مناصب بعيدة عن مقرات سكنهم العائلية، تحت ضغط البطالة أو الخوف من ضياع فرصة نادرة للالتحاق بالجامعة. وغالبًا ما يكون القبول “على مضض”، مؤقتًا في النية، دائمًا في الواقع.

فما يظنه البعض انتقالاً مرحليًا يتحول إلى إقامة قسرية، ومع مرور السنوات، يصبح السفر الطويل، وتشتت الأسرة، والضغوط الاجتماعية والنفسية واقعًا لا يطاق.

وحين يطرق الأستاذ الباحث باب الحركية، تبدأ المتاهة: طلبات تمر عبر عدة مستويات من الإدارة، وموافقات مشروطة، ومناصب مالية مرتبطة بميزانيات متقلبة، وصولًا إلى شرط “تبادل التخصصات” الذي يجعل الحل شبه مستحيل.

لتتحول مسطرة الانتقال بفعل ذلك إلى اختبار للصبر والولاءات، حيث ينجح من يمتلك الحظوة أو الوساطات، ويُقصى من يتمسك فقط بحقه. إنه وجه آخر من أوجه الفساد الصامت الذي ينخر جسد الجامعة.

3)      الحركية ليست امتيازًا بل ضرورة إنسانية ووظيفية

ينبغي على المسؤولين في الوزارة والجامعات أن يدركوا أن الحركية ليست “مِنّة” تُمنح، بل حق إداري وإنساني في آن واحد. فاللجوء إليها غالبًا ما يكون اضطراريًا لأسباب اجتماعية (التحاق بالزوج أو الزوجة، تربية الأطفال، ظروف صحية أو نفسية…)، أو لأسباب أكاديمية بحتة (الرغبة في بيئة بحثية أنسب أو مشروع علمي مشترك).

إن مقاربة هذا الملف بعقلية “المنح والمنع” تقوّض روح الإصلاح الجامعي وتناقض مبادئ الحكامة الجيدة.

بل إن الحركية – إذا ما نُظّمت بإنصاف وشفافية – تشكل رافعة للتنمية الأكاديمية، لأنها تتيح تجديد دماء المؤسسات الجامعية، وتنشيط التعاون البيداغوجي، وتبادل الخبرات بين الجهات.

4)      الحداد المهني وصدمة الرفض: حين يتحول الأمل إلى معاناة

على أصحاب القرار أن يعلموا أن الأستاذ الباحث عندما يقرر طلب الانتقال، يكون قد مرّ فعلاً بمرحلة الحداد المهني على وضعه القائم: ودّع استقراره السابق، وأعدّ نفسه نفسيًا ومهنيًا للانتقال إلى فضاء جديد، ورتّب حياته الأسرية والمهنية وفق أفق من الأمل والانسجام.

لكن لحظة رفض الطلب تقلب المعادلة رأسًا على عقب. فبعد الحلم بالانطلاق، يجد الأستاذ نفسه أمام جدار صامت من الرفض الإداري، دون تفسير أو مرافقة أو تعاطف. عندها تبدأ الآثار الحقيقية للحداد :

يتولد الإحباط، ويتلاشى الانتماء، ويحلّ محلّ الحماس فتورٌ مهنيّ ينعكس على الأداء البيداغوجي والعلمي. ومع الوقت، تتعمق القطيعة بين الأستاذ ومؤسسته، فينهار الدافع الداخلي، ويتحول الإبداع إلى واجب ثقيل لا متعة فيه.

إن رفض الحركية دون تبرير إنساني أو مؤسسي مقنع هو في الواقع رفض للإنسان داخل الأستاذ، وضرب لمبدأ الثقة الذي تقوم عليه المنظومة الجامعية.

5)      بوادر تقدم وتجارب محلية مشجعة

رغم تقاعس الوزارة عن إرساء سياسة وطنية عادلة للحركية، فإن بعض الجامعات – وفي مقدمتها جامعة القاضي عياض – أبدت مؤشرات إيجابية.

فقد تم اعتماد آلية تسمح بإيداع طلبات الانتقال الداخلي بين المؤسسات التابعة للجامعة، مع معالجة الملفات قبل الإعلان عن توزيع المناصب المالية الجديدة، لضمان تعويض المؤسسات الأصلية قبل فتح مناصب إضافية.

إن هذه الخطوة، وإن كانت محدودة النطاق، تشكل سابقة يمكن البناء عليها وطنياً لتعميم التجربة في إطار من الشفافية والإنصاف.

6)      نحو نظام وطني شفاف للحركية الجامعية

إننا، من موقع المسؤولية الأخلاقية والعلمية، نقترح ما يلي:

v      إقرار نظام

وطني للحركية الجامعية تشرف عليه الوزارة الوصية مباشرة، وفق مسطرة شفافة وموحدة بين الجامعات.

v      ضمان الحق في الانتقال بعد أربع سنوات من الخدمة الفعلية داخل أول مؤسسة، دون الحاجة إلى تبريرات غير موضوعية.

v      إعطاء الأولوية للحالات الاجتماعية (التحاق بالزوج/الزوجة، التحمل العائلي، الحالة الصحية…).

v      تخصيص الحصص المالية الجديدة بعد الإعلان عن نتائج الحركة، وليس قبلها.

v       إحداث منصة وطنية إلكترونية لتدبير الطلبات تتضمن آجالاً محددة، ومعايير معلنة، وتقريراً سنوياً للشفافية والمساءلة.

عود على بدء: من البيروقراطية إلى العدالة الجامعية

إن إصلاح منظومة التعليم العالي لا يكتمل إلا بإصلاح أوضاع من يحملون على عاتقهم رسالتها.

فالحركية ليست مطلبًا فئويًا، بل قضية كرامة مهنية وعدالة إنسانية.

وإن الجامعة التي لا تضمن لأساتيذها توازنهم النفسي والاجتماعي، لا يمكنها أن تطالبهم بالعطاء العلمي المتميز.

آن الأوان لأن تتحول الحركية الجامعية من ملف إداري مسكوت عنه إلى عنوان لحكامة عادلة وإنسانية، تضع الإنسان قبل النص، والكرامة قبل الولاء، وتُعيد إلى الجامعة روحها كفضاء للحرية والاحترام والإبداع

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد