بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
إنها أصواتٌ فلسطينيةٌ وعربيةٌ ودوليةٌ، صادقةٌ وناصحة، ومخلصة ومتعاونة، وليست متآمرة ولا معادية، ولا نتهمها ولا نشكك فيها، ولا نظن فها ظن السوء عندما توجه النصح والنقد إلى الفلسطينيين، شعباً وقيادةٌ وقوى، فهي تحب فلسطين وأهلها وتشفق عليهم، وتساندهم في نضالهم وتؤيدهم في حقوقهم، وتدافع عنهم وتضحي من أجلهم، وهي تتابع وتراقب، وترصد وتحصي وتدقق، ولها فيما يجري رأيٌ ووجهة نظر، ولا نستطيع أن نحجر على رأيها، أو نمنعها من بيان موقفها وشرح وجهة نظرها، وقد رأت أن هذه الانتفاضة ستوجع الشعب وستؤلمه، وستؤذيه وستضره، لأن الدول العربية منشغلة بهمومها الداخلية، وحروبها وصراعاتها البينية، والدول العظمى مشغولة جداً بالقضايا الكبرى المستجدة، وتطوراتها المتسارعة، ولا يبدو أن دولةً عربية أو غيرها قادرة على الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني ومساندته في انتفاضته الثالثة.
ويرون أن خسائر الفلسطينيين تتضاعف بسرعةٍ مفرطة، وأعداد الشهداء في تزايدٍ مستمر، وهم في أغلبهم من الشبان والشابات، الذين يستشهدون ويقتلون بدمٍ بارد، أو يعدمون وتتم تصفيتهم عمداً ودون سببٍ يسمح، في الوقت الذي لا يقتلون فيه من العدو إلا قليلاً، ولا يؤذونه كثيراً، وسلطات الاحتلال الإسرائيلي تحاول مواجهة الانتفاضة بالقوة المفرطة، وقد سمحت لمواطنيها ومستوطنيها باستخدام أسلحتهم الخاصة في قمع الفلسطينيين وصدهم، وشرعت لهم قتلهم بالجملة دون محاسبةٍ أو محاكمة، الأمر الذي يخيف هذا الفريق من الأمة ويقلقهم، ويشعرهم بالأسى والألم، ويدفعهم للتفكير السلبي بضرورة وقف هذه الانتفاضة، والبحث عن سبلٍ جديدةٍ للمقاومة ومواصلة النضال، لحماية الشباب، والحيلولة دون وقوع المزيد من الخسائر.
وأصواتٌ إسرائيليةٌ أخرى لا نثق في أصحابها، ولا نصدق كلامهم، ولا نبني على تصريحاتهم، ونتهمهم ونشك في صدقهم، ونعلم يقيناً أنهم يسعون لصالح كيانهم، ويتطلعون لتحقيق أهداف شعبهم، تعتقد أنه بغض النظر عن أعداد الشهداء الفلسطينيين، الذين يقتلون يومياً في مدينة القدس، وفي مختلف مدن وبلدات الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن الحكومة الإسرائيلية خائفة مما يجري، وقلقة من المستقبل، وتخشى من تداعيات الأحداث وآثارها على البنية الداخلية الإسرائيلية، وعلى علاقاتها الخارجية، وأنشطتها الاستيطانية، وعلى أسواقها التجارية ومشاريعها الاقتصادية المحلية والدولية، وترى أن استمرار هذه الأحداث، التي يروق للفلسطينيين تسميتها بالانتفاضة، قد يؤدي إلى عزل إسرائيل دولياً، وتشويه صورتها، وقطع العلاقات الاقتصادية معها، ووقف التعامل المالي مع مؤسساتها المالية وبيوت المال والمصارف المختلفة، ولهذا فإنهم يدعون حكومتهم إلى البحث عن أفضل وأسهل وأسرع الطرق لإنهاء الانتفاضة ومنع استمرارها.
ويعتقد إسرائيليون استراتيجيون ومفكرون كبارٌ من هذا الفريق، ممن يخططون لكيانهم، ويجتهدون في البحث عن حلولٍ لمشاكله، ومخارج آمنة من أزماته، أن الحل الأمني والتعامل العسكري الخشن وحده لا يكفي، وإن كان ضرورة لا يمكن الاستغناء عنه، ولكن وقف الانتفاضة وإخماد لهيبها يتطلب وسائل أخرى عديدة، ليس بالضرورة أن تتقدمها القوة ويطغى عليها الحل العسكري، فهي لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة وحدها، وقد أثبتت الانتفاضات السابقة أن فرضية القوة وحدها فرضيةٌ فاشلة، وأنها تزيد في عمق الأزمة وإطالة أمدها، لذا فإنهم في سبيل الحل الناجع والسليم والطويل الأمد، في حاجةٍ ماسةٍ إلى تعاونٍ دولي وإقليمي معهم، خاصةً تعاون الدول العربية التي ترتبط معهم باتفاقياتٍ وتفاهماتٍ، معلنة أو سرية، وعليهم أن يقنعوا الدول العربية المعنية بجدوى وقف الانتفاضة وأنها في صالح كل الأطراف، الفلسطينية والإسرائيلية وغيرها.
لا يخجل الإسرائيليون من مواقفهم، ولا يستحون من مطالبهم، إذ يلحون على الدول العربية للتعاون معهم في وضع حدٍ لهذه الانتفاضة، ومنع استمرارها وامتدادها، وتعزز مطلبها ببيان خطورة استمرار الانتفاضة على كل الأطراف، وأن الفلسطينيين سيكون الأكثر تضرراً منها، لذا ينبغي عليهم أن يكونوا متعاونين ومتفهمين، فتطالبهم بعدم تخصيص برامج إعلامية تحريضية أو تعبوية، أو استضافة شخصياتٍ تقود العنف وتدعو إليه، وألا يسلطوا الأضواء على الصورة والمشاهد المؤلمة، التي تزيد من احتقان الشارع الفلسطيني والعربي، وألا يسمحوا في بلادهم بمسيراتٍ ومظاهراتٍ مؤيدة للانتفاضة وداعية لاستمرارها، وتطالبهم أيضاً بالتوقف عن نقل وإذاعة تصريحات وأقوال المتطرفين الإسرائيليين، ودعوات أعضاء اليمين الديني المتشدد، وألا يجعلوا من سلوك بعض المستوطنين هو السلوك الإسرائيلي العام.
وفي السياق نفسه وجه المختصون الإسرائيليون في المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، فريق السايبر العامل في فضاء الانترنت، وجلهم من الطلاب والطالبات، لفتح حساباتٍ جديدة على الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي، وتفعيل القديم منها، للتواصل مع العرب، الفلسطينيين وغيرهم، في الداخل والخارج، في محاولةٍ مدروسة لبيان عيوب وسلبيات الأحداث، وخطورة الاستمرار فيها، ونتائجها السلبية على مستقبل العرب ورخائهم، وعلى اقتصادهم واستقرارهم، والعمل بصورة جادة ومنظمة لخلق بيئة عربية معارضة للانتفاضة، ومناخ سلبي لا يتعاون معها ولا يقدم الدعم والإسناد إلى القائمين عليها.
نقول للإسرائيليين الذين ينصحون العرب العقلاء والفلسطينيين أصحاب الشأن بضرورة وقف الانتفاضة، وإنهاء عمليات العنف التي تشهدها الأراضي الفلسطينية، حقناً للدماء، وحرصاً على المصالح الفلسطينية ومستقبل الشعب كله، فإننا نقول لهم كذبتم وخسئتم، إذ ما صدقوا القول ولا أخلصوا النصح، فهم لا يحبوننا ولا يسعون لصالحنا، ولا يعملون لأجلنا ولا يتطلعون إلى مستقبلنا، ولكنهم عرفوا أن هذه الانتفاضة تضر بهم وبمستقبل كيانهم، وتعزلهم وتضيق عليهم، وأنها تؤسس لمقاومةٍ شعبيةٍ جديدةٍ، قويةٍ وصلبة، وثابتة ودائمة، وستجبرهم مع الوقت على الخنوع والقبول بشروطهم، والتسليم للفلسطينيين في حقوقهم التي انتفضوا من أجلها، وضحوا في سبيل تحقيقها.
أما إن كنا نبرر موقف ورأي المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني، ولا نغضب منهم ولا نتحامل عليهم، فإننا نشكرهم على حرصهم وخوفهم، ونؤكد لهم بأن الشعب الفلسطيني قد اعتاد على الوحشية الإسرائيلية، وقد خبر عنفهم وإفراطهم في القوة والقتل، وسجل شهدائنا يشهد، وقوائم معتقلينا تنطق، وليس في تاريخهم معنا فترات هدوءٍ ودعةٍ، وسلامٍ ومحبة، بل دوماً يقتلون ويبطشون، ويعتدون ويظلمون، فهذه هي سياستهم العامة وسلوكهم الدائم الذي لا يتغير ولا يتبدل، ولا يكون عنيفاً في الانتفاضة ومسالماً في غيرها.