تبوء مكان ورصد فسحة في المعلقة، اللوحة الداكنة، الذاكرة المغبرة المنسية ..اليوسفية عبد الخالق باحجوب
اليوسفية :عبد الخالق باحجوب
لجأ المحجوب إلى هذه المستعمرة الجديدة، التي لاحت في هذه الربوع الخالية، إلا من بعض الدواوير النائية، المتناثرة في الأنحاء، والتي كان قد اكتشفها من قبل، وهو لايزال صبيا دون العاشرة، عندما قام رفقة والده بزيارة أخيه عمر: أحد المستقدمين الأوائل من الأسواق الجهوية، تجوّل المحجوب خلالها في هذا المكان الذي يوحي بالحيطة والحذر، اقامة “ديور النصارى” التي تخضع لحراسة مشددة، وخيام حقيرة مهترئة، تؤطرها أكواخ من الحطب “نوايل” وأحواش من الحجر، حيث يقيم هؤلاء العمال المستقدمون.. لاحظ المحجوب أن تلك الأكواخ البدائية قد اندحرت إلى ربوة على الضفة الجنوبية لوادي “كشكاط”، الذي ضربوا دونه سدّاً وحولوا مجراه الى محيط مستعمرتهم، وراحوا يمددون إقامتهم التي أنشؤوها على أنقاض جنان “الجبورات” الذي كان يقبع وحيداً هناك، على الضفة الشمالية، المنحدرة إلى بطحاء الوادي. إنهم يبعدونهم عن محيط إقامتهم، مع الاحتفاظ بهم تحت المراقبة في مجموعة “البرارك”، التي اعتادوا عليها وخضعوا لظروفها القاهرة، لسوء الأحوال في تلك الفترة السوداء القاتمة. وأصبح اسم “كشكاط”، هو الاسم المتداول لهذه المستعمرة، نسبة لوادي المنطقة. التعامل بالبون ساري المفعول، للنصارى بونهم، وللمسلمين بونهم. المحلات التجارية الجديدة “الـﮔريـﮔات”، التي ظهرت على بعد خطوات من (ديور النصارى) توفّر لهم كل ما يحتاجونه في حياتهم اليومية من مؤن ومواد استهلاكية، أما العمّال المغاربة، فانّهم يتزودون من تلك الحوانيت والهرايا البسيطة، (التي ظهرت بالقرب من السوق الأسبوعي الحديث العهد هو أيضا بهذه المستعمرة).
الإدارة الاستعمارية لاتزال منهمكة في تهييء الأرضية التي يقوم عليها المشروع الكبير، النصارى يتنقلون على العربات التي تجرها الخيول والبغال، وعلى دراجاتهم الهوائية، مستعملين بعض الشاحنات البخارية لنقل عتادهم، وهم يصرخون، يصدرون الأوامر ويسجّلون على الكراسات، وعلى الألواح التي يضعونها شارات على بعض الأماكن المعيّنة، مطوّقين رقاب الكادحين بقصاصات، تحمل أرقاما تميّز بينهم.
لا أكاد أظهر وسط هذا الحشد الغفير من الوافدين، النازحين من كل حدب وصوب، الذين يشكلون هذا الطابور الطويل، التي لا يلبث أن يتقلص شيئا فشيئا، دون استثناء الفتيان اليافعين، والشيوخ، وذوي العاهات البسيطة. جاء دوري، وأخذوني للفحص عند الطبيب، طوّقوا رقبتي برقم جديد، وعيّنوني في “الـﮔاعة”، حيث تتم عمليّة تنشيف التراب من الرطوبة، وذلك بحرثه ودعسه بواسطة الجمال، تحت أشعة الشمس، في ممرات طويلة استعملت لهذا الغرض، والتي كان يشرف عليها گراو ذو العينين الحمراوتين، وهو يصرخ ملوّحا ومهدّدا بالسوط، كل متهاون أومتقهقر.
فيما كنت أتصّبب عرقا ذات يوم حارّ، أدفع العربة الثقيلة، ثم أفرغها، و أسوّيها في الممر الطويل، ثم أعود لشحنها من جديد، واذا بـﮕراو يشير نحوي: هيه.. أنت، ما الذي أصابك؟ توقفت لحظة أسترد فيها أنفاسي المتلاحقة، خلعت طربوشي الأحمر الذي استجاب لفورة العرق، فبدا وجهي مضرّجا بحمرة قانية، خالها ﮔراو دما! مرّرت يدي على رأسي ووجهي، ومسحت بطرف قميصي، وما ان تبيّن لكَراو أن لاشيء قد حصل، حتى عاد يحثّي على الإسراع بوتيرة العمل: ألي ألي.. ألطاك، ألطاك…المسجد الصغير، يعود تاريخيه الى عهد “البرارك” فيلاج الشلوح، البدائي قبل “البلوك، والديور الجداد..” وقد خضع لعدة ترميمات