دردشة مع طالبة طب

بديعة خداد 

فتاة خلوقة تبتسم في وجه الآخرين بمجرد أن تلقىعليها التحية، راقية في مظهرها وتصرفاتهاوأخلاقها. تواضعها سر رقيها، ابتسامتها تكاد تنوب عنها في الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف: “وتبسمك في وجه أخيك صدقة”. هي طابة طب على مشارف التخرج.تبادلت معها مرارا”دردشات” جد مقتضبةعن دراسة الطب و الامتحانات،و أيضا عن الضجيج المزعج، الذي يحدثه محرك ضخم بجانب العمارةالتي نتقاسم فيها السكنوالجوار. كثيرا ما كنت أحدث نفسي و أنا أودعها: ترى هل ستحتفظ بابتسامتها عندما تصبح طبيبة؟ هل ستكون كريمة مع مرضاها و لا تبخل عليهم بابتسامتها كجزء من العلاج، كما يؤكد على ذلك الباحثون؟

التقيتها  مؤخرا و انا أهم بدخول مصعد العمارة. تبادلنا التحية كالعادة، تبادلنا أيضا التهنئة بمناسبة عيد الأضحى المبارك.جمعنا المصعد لبضع دقائق، تذكرت لحظتها الإضراب الذي يخوضه خريجو وطلبة الطب منذ عدة أشهر، محتجين بذلك على قانون الخدمة الإجبارية، و ظروف العمل و التكوين المحبطة التي يعانونها. كنت من الذين يستهجنون احتجاج طلبة الطب على الخدمة الإجبارية و العمل في المناطق النائية. سارعت إلى اقتناص الفرصة لأسألها عن أحوال الدراسة بكلية الطب و الصيدلة، أجابتني بسرعة بعد أن توارت ابتسامتها خلف توتر داهم محياها البريء للحظة: “نحن لا ندرس، نحن مضربون عن الدراسة”. سألتها: “لماذا؟ يقال انكم ترفضون العمل في المناطق النائية، تريدون العمل فقط في المدن الكبرى؟”. توارت ابتسامتها اكثر و هي تجيب بحرقة هادئة: “الناس يتعاملون مع طلبة الطب كما يتعاملون مع بعض الأطباء، الذين لديهم عياداتهم، وظروفهم المادية و الاجتماعية مريحة وجيدة. نحن غير ذلك، لسنا كلنا”اولاد الفشوش” كما يشاع عنا،نحن نعاني و لكن لا يصدقنا أحد. أنا مستعدة للعمل في المناطق النائية، شريطة أن يوفروا لي ظروف العمل المناسبة، هل يعقل أن أفحص مريضا وأعجز عن مساعدته و أكتفي بتسليمه وصفة دواء؟”.

 توقف المصعد غادرناه معا، لم أشأ أن أنهي هذه الدردشة التلقائية دون أن أنتزع منها تعليقا حول تساؤل محرج كان يتدافع في ذهني، قذفت به بسرعة : ” عذرا، هناك أيضا مدرسون و مدرسات يعملون في مناطق نائية معزولة و ظروفهم أصعب، لماذا كل هذا الرفض منكم؟”. عاد التوتر يعلو محياهابعد أن تبدد قليلا، و طيف ابتسامة باهتة تشي بمعاناة و خوف من مستقبل غامض.أجابت  كأنها تحاول تبرئة نفسها من تهمة ثقيلة: “أنا مستعدة للعمل في منطقة بعيدة، و لكن لا يعقل أن نشتغل طيلة عامين في ظروف سيئة و نواجه بعد ذلك المجهول،نريد أن نضمن مستقبلنا.” صمتت لبرهة ثم أردفت متأسفة: “إضافة إلى رفضنا للخدمة الإجبارية و احتجاجنا على ظروف العمل المزرية، هناك أيضا مشكل ضعف التكوين في كليات الطب، ثم ابتسمت و أنهت كلامها قائلة: الناس لديهم نظرة خاطئة عن الأطباء، نحن أيضا نعاني.”

ودعتها و أنا أشعر بتعاطف صادق معها، لأنها كانت تبدو محبطة و متعبة. تمنيت فقط في قرارة نفسي، لو تجود علي الصدف بمسؤول عن قطاع الصحة لأعرف وجهة نظره.

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد