بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
هل من المنطق السليم العاقل والواعي، والوطني المخلص المسؤول، أن تترك الانتفاضة دون قيادة تنظمها وتخطط لها، ودون مرجعيةٍ وطنيةٍ تحميها وتدافع عنها، ودون إطارٍ وطنيٍ جامعٍ موحدٍ ومتفقٍ عليه ومتجانسٍ يصونها ويحفظها، ويردفها ويدعمها، ويتحدث باسمها ويستثمر إنجازاتها، ويعبر عن حاجاتها ويتصدى لتحقيق مطالبها، ويضمن استمرارها ويحقق نجاحها ويسعى إلى سلامتها، فهذه من البديهيات التي علمتنا إياها الانتفاضتان السابقتان، وهي من سنن النجاح ونواميس النظام، التي تلتزم بها الثورات، وتحافظ عليها الشعوب خلال مسيرة نضالها وسنوات مقاومتها، فقد كانت في الانتفاضات التي سبقت قيادة موحدة وإن لم تلتزم بعض القوى بها، إلا أن التنسيق كان يكملها، والتنظيم كان يوحدها ويعوض النقص الذي لحق بها.
ليس من المنطق أبداً أن تبقى الانتفاضة هكذا هملاً، لا رأس لها ولا رئيس، ولا قائد لها ولا مسير لفعلها، ولها أكثر من خطاب وعندها أكثر من فلسفة، تتخبط وتتعثر بخطى بعضها وفعاليات قواها، التي لا يجمعها إطار ولا توحدها هيئة، وإنما تحركها همم الشباب، وعزائم الرجال، وتضحيات النساء، وتسير بقوة الدفع الذاتي الشعبي المخلص، بعيداً عن الخطط البعيدة المدى والمشاريع ذات الجدوى الوطنية، إذ من يخطط لهم ويفكر عنهم، ومن ييسر أمرهم ويستطلع لهم، ولكن الحقيقة المرة أنه لا يوجد من ينير دربهم، أو ييسر عملهم، ويستطلع لهم، ويزودهم بالمعلومات والبيانات، ويحذرهم من الأخطاء والسقطات، والعثرات والزلات، فقد شغلهم تكريس الخلاف وتعميق الانقسام، وتحقيق المصالح عما هو أحق وأوجب.
تعلم القوى والأحزاب الفلسطينية وهي كثيرة، أن الشعب مهما كان قوياً فهو في حاجةٍ إلى قائدٍ ومسيرٍ، وأنه مهما كان باسلاً وشجاعاً فإنه يبقى في حاجةٍ إلى هيئةٍ توجهه وتشرف عليه، وإن لم يكن هذا هو دورهم والمهمة الملقاة على عاتقهم، فما هي مهمتهم، وما هو دورهم، أتراهم يفكرون فقط في تجيير المكتسبات، وتبني الشهداء والعمليات، والتغني بالانتصارات والإنجازات، وتجييرها سياسياً لصالحهم، وتوظيفها حزبياً وفئوياً بما يخدم أهدافهم الخاصة وغاياتهم الضيقة المحدودة.
القوى والفصائل الفلسطينية تعلم أن العدو الإسرائيلي فرحٌ لعجزهم عن استيعاب الانتفاضة، ومسايرة الشعب والمشي معه، إذ أن الشعب قد سبقهم وتجاوزهم، وإن كان قد انتظرهم علهم يلحقون ويعوضون، لكنهم ارتكسوا وانشغلوا فلم يعد فيهم أملٌ ولا منهم رجاء أن يدركوا ما فاتهم، ويعوضوا ما قد سبقهم، وهذا ما يدركه العدو ويعلمه، وما يسعى إلى تكريسه واستمراره، إذ أن من صالحه أن تبقى الانتفاضة عمياء لا عيون لها، وتائهة لا دليل لها، وفوضى لا منظم لها، وعنفاً لا سياسة مرجوة منها.
إن أكثر ما يلفت النظر في انتفاضة القدس الثانية أنها انتفاضةٌ شعبيةٌ عفويةٌ، يقودها الشباب وتحركها العاطفة، ويدفعها الصدقُ ويبلغها الإخلاصُ والتفاني، والتجردُ والتوكلُ، أمانيها التي انطلقت من أجلها، ويحقق لها الأهداف التي وضعتها لنفسها، ولولا بركةُ الأرض وصدقُ الشعب ونبلُ الغاية وطهرُ الهدف ما كان لهذه الانتفاضة أن تمضي، وأن تشق طريقها رغم الصعاب، وأن تتصدى للتحديات وتغالبها وتحاول الانتصار عليها، مع أن الظروف تعاكسها ولا تساعدها، والمحيط حولها يلتهب ويشتعل، وبغيرها من همومه ينشغل، إلا أن شعب الانتفاضة العظيم قرر أن ينهض وينتفض، ويثور وينعتق، طالباً حريته، وساعياً لاستعادة حقوقه، وضمان أمنه ومستقبله، وإن تأخرت قيادته، وتراجعت فصائله.
مضى شهران على بداية الأحداث في الضفة الغربية، التي آلت بعد أيامٍ قليلةٍ من اندلاعها إلى انتفاضةٍ شعبية، وخلفت قرابة التسعين شهيداً، وأكثر من ألف معتقل، ومثلهم أكثر من الجرحى والمصابين، وعشرات البيوت المدمرة ومناطق كثيرة محاصرة ومغلقة، وما زال الشعب ماضٍ في انتفاضته، ومصرٌ على ثورته، وثابتٌ على مواقفه، ومتطلعٌ إلى أهدافه، وهو يقدم ولا يبخل، ويخوض ولا يتردد، وينفذ ولا يخاف، ويواجه ولا يجبن، ولا ينتظر من غبر الله مثوبةً، ومن غير شعبه وأمته رضا، ولا يتوقع من أحدٍ أجراً أو مقابل، أو رفعةً في الحياة وذكراً بين الناس، إنما همه أن يرفع الظلم والجور، وأن يحقق النصر وبنجز العودة، وأن يطهر مقدساته، ويفتح أبواب مساجده والأقصى أمام المصلين.
عجيبٌ أمر هذه القيادة وهذه القوى الفلسطينية جميعها، كأنها عمياء لا ترى، أو بلهاء لا تعي، أو مضطربة فلا تحسن التفكير، ولا تنتهز الفرص ولا تقتنص المكرمات، فقد أكرمها الله بهذا الشعب، وتفضل عليها بهذا الجيل، القوي الشجاع المضحي المبادر الهمام المقدام، الذي تفتخر به الأمم، وتتيه بروعته الشعوب، وتتغنى ببطولته الأجيال، فما يقدمه أكثر مما نتصور، وأعظم مما نتخيل، إذ أن من بيوتهم وأسرهم من قدمت أكثر من شهيدٍ ومعتقلٍ وجريحٍ، فالشقيق يلحق بشقيقه، ويصر على الثأر له والانتقام من أجله، وكذا الأخت والأم، والأب والابن، يلحقون بالشهداء ويسيرون على دربهم، ويكونون مثلهم وينالهم فضل من سبقهم، ولكن قيادةً عاجزةً عن المواكبة، وخائفة من المتابعة، أحرى لها ألا تكون، وأفضل لها أن تنسحب، وأشرف لها أن تعترف وتقر بعجزها، وتطلب من غيرها القادر أن يتقدم ويمضي، ليحمل الراية ويقود المسيرة.
رغم ذلك فإن قيادةً للانتفاضة لم تتشكل بعد، ورؤيةً مشتركة لم تتبلور، وطريقاً واضحاً لم يرسم، وأهدافاً مشتركة لم تطرح، وغاياتٍ مأمولة لم تحدد، وما زالت القوى والفصائل الفلسطينية مضطربة ومرتبكة، لا تعرف ماذا تفعل ولا كيف تواجه، تنتظر طارئاً يقع أو تتوقع حدثاً ليس من صنعها، يدفعها أو يغير من حالها، رغم أن كثيرين يقولون دعوا الانتفاضة تمضي على بركة الله وبتوفيقه، ولا تتدخلوا فيها فتفسدوها، ولا تخططوا لها فتخذلوها، ولا تساعدوها فتخونوها، ولا تستغلوا إنجازتها فتحرفوها عن حقيقتها النقية، وجوهرها الصافي الواضح والصريح.
بيروت في 20/11/2015