محمد أديب السلاوي
-1-
الإرهاب في الأرض، قديم قدم التاريخ، تواجد بكل الحقب والعصور والأزمان، في مختلف بقاع الأرض، استعمله الإنسان دائما وباستمرار، كشكل متميز من أشكال الحرب النفسية التي تستهدف بتخطيط أو بدونه، التأثير على الأنظمة والشعوب، إلا أنه في القرن الماضي أصبح ظاهرة خطيرة تشكل تهديدا للإنسان وبيئته وفكره وتراثه، خاصة عندما أخذ الإرهاب يستفيد من تقدم العلوم والتكنولوجيا وعلوم الاتصال، ومن تطور القوانين والمجتمعات.
ومن الوجهة التاريخية، تعود ” جذور” ظاهرة الإرهاب في القرن الماضي، إلى موجة الإرهاب التي تفجرت خلال نهاية القرن الذي قبله (التاسع عشر) بروسيا القيصرية، وهي تشكل تجربة متفردة وغنية بسبب كثافتها، وأيضا بسبب الجدل الذي أثارته في زمانها.
لقد برزت ظاهرة الإرهاب في روسيا القيصرية مترافقة ومتزامنة مع العمل السياسي في أعقاب الثورة الاجتماعية، ضد عبودية القياصرة. وكان أساس هذه الظاهرة، هو تقديس البطولة والعنف الفردي، واعتبار ” الإرهاب” أسلوبا في النضال السياسي الهادف.
ومباشرة بعد هذه الفترة، انتقل العمل بالإرهاب إلى تنظيمات لها قواعد وضوابط عملية داخل الأحزاب السياسية، وكان من أشهر ” الإرهابيين” في القرن التاسع عشر بروسيا القيصرية،” وليانوف” (الذي حاول اغتيال القيصر الكسندر الثالث في سنة 1887م)، وهو شقيق فلادمير لينين الذي ساهم بقوة في إبراز النظرية السياسية القائلة بأن الشعب وليس الفرد هو الصانع الحقيقي للتاريخ.
وبظهور الحركة الروسية الشيوعية بقيادة لينين دخلت كلمة “الإرهاب” مرحلة جديدة من التاريخ حيث تم تجاوز الفرق بين نوعي الإرهاب. إرهاب الحكام وإرهاب المحكومين. ليصبح الإرهاب وسيلة مرتبطة بالعنف الإيديولوجي الثوري المنظم والموجه ضد العدو الإيديولوجي، باعتباره مجرما أخلاقيا وتاريخيا وإيديولوجيا، وبالتالي فليس هناك مجال لاعتبار نوعين من الإرهاب متمايزين جوهريا، واحد قبل تولي السلطة والثاني بعده، لأنه في كلتا الحالتين إرهاب واحد، مهما اختلفت الأساليب والأجهزة التي تنفذه.
ويرى العديد الباحثين في تاريخ روسيا، أن لينين لم يظهر ميلا نحو الإرهاب أو تعاطفا ضمنيا معه فقط، بل أنه دعي إلى الأعمال الإرهابية بكل عزم وصراحة، حتى أصبح الإرهاب على يديه السبيل الوحيد لأعداد الثوار للمجابهة الكبرى لتهيئة الأجواء العامة للثورة. فقد كتب يقول : ” مبدئيا نحن لم نرفض الإرهاب أبدا ولا يمكننا أن نرفضه، انه وجه من وجوه الحرب الذي بإمكانه أن يتوافق مع مرحلة من مراحل المعركة، وربكما لا يمكن الاستغناء عنه في بعض الظروف”.
وتجسيدا لهذا التوجه صدر في العاشر من (دجنير) من سنة 1917 مرسوم عن مجلس مندوبي الشعب يقضي بإنشاء “التشيكا” وهي جهاز امني بولسيي، هدفه العمل ضد عمليات التخريب التي يقوم بها أعداء الثورة، ومما جاء في المرسوم : “نظرا للوضع الراهن من الضروري أن نضمن بالإرهاب أمن مؤخرة الجبهة”.
وتجب الإشارة هنا، أن روسيا، وحتى بعد مرحلة ” الاتحاد السوفياتي” ظلت مستلبة إلى المفاهيم الإرهابية التي ظهرت قبل الثورة الشيوعية، والتي أجاز “لينين” استخدامها للأغراض الإستراتيجية. فحتى الآن ما زالت هناك زاوية في الأرض الإسلامية تحت النفوذ الروسي، تدعى أرض ” الشيشان” حيث كل شيء فيها بسبب “الإرهاب الروسي” أصبح آيل إلى الخراب، تباد مدنها وقراها ويباد شعبها بالمدافع والقنابل والرصاص منذ مدة طويلة، خارج اللغط الدولي حول قيم الحضارة والمدنية وحقوق الإنسان.
فالعالم ما زال يذكر الإرهاب الذي عرفته ” حرب الشيشان” (1994-1996) وهو إرهاب فاق في عنفه وشدته وضراوته كل ما حدث من إرهاب في مقدونيا وكوسوفو وسراييفو، خلال القرن الماضي، وما زال يذكر أيضا المجازر الرهيبة التي نفذها الجيش الروسي في ” فوفي آلدي” بداية سنة 2000، وفي ضاحية مدينة ” كاثيريورت” ( في نفس السنة) حيث أطلق النار عشوائيا على المئات من الأبرياء، الذين لا حول ولا قوة لهم، ولا ذنب لهم سوى أنهم ” شيشان”.
ويذكر تاريخ العالم المعاصر، أن الموجة الأولى من الإرهاب في القرن العشرين، انتقلت من روسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، انتقلت من الحركات الفوضوية والعدمية، تم الشيوعية بروسيا، والتي كان هدفها فتح الطريق نحو الثورة، إلى الحركات العنصرية والامبريالية والعسكرية بأمريكا، لتشدد قبضتها على الأرض، ولتجعل من الولايات المتحدة الأمريكية، نموذجا متفردا في ظاهرة الإرهاب والعنف ربما تفوق نسبتها أي بلد آخر، ذهب ضحيتها آلاف من الضحايا، وملايير الدولارات من الخسائر داخل أمريكا وخارجها.
ومرجعية الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية لا تعود فقط إلى الحروب الأهلية التي تأسست على إثرها الدولة الأمريكية، ولكن أيضا إلى سياساتها الخارجية التي دأبت على صناعة الإرهاب في مناطق عديدة من الأرض، والى رعايتها لأنظمة متطرفة وأنظمة دموية / والى احتضان وتربية ودعم العناصر المتطرفة وتجنيدها لتنفيذ مطامحها العسكرية والسياسية، داخل الحدود الأمريكية وخارجها. إلى أن اصطبحت أمريكا مرتعا لعصابات المخدرات ولمنظمات المافيا، وللمنظمات المتطرفة المتسترة بالإسلام السلفي الجهادي.
وبين ظهور الإرهاب في روسيا، والإرهاب في أمريكا، ظهرت بأوروبا موجات عنيفة من الإرهاب، ذات توجهات وأهداف مختلفة، ولدت في خضم الحرب الباردة، استعملت كل أساليب الترهيب والتخويف والعنف، وانتهت إلى استعمال القطارات والصواريخ والأسلحة الفتاكة، من أجل أهدافها المتعددة التوجهات، وما زال بعضها متناسلا حتى الآن في أهم العواصم الأوروبية.
وفي ظل هذا الصخب الإرهابي، الذي سيطر على الاهتمام الإنساني خلال القرن الماضي، تسرب الإرهاب إلى الوطن العربي بشكل ملفت، على يد العصابات الصهيونية الإسرائيلية، في زمن طافح بالمرارة والإحباط وتصادم القيم، ليبني قواعده على يد كبار المتطرفين الإسرائيليين، وليصبح الإرهاب الإسرائيلي بعد ذلك “سيد المواقف” على مكاتب وموائد الحكومات والأجهزة / العسكرية والمدنية الإسرائيلية، وعلى مكاتب الخبراء وكل الفاعلين، في الجهات التي ينتعش فيها الفكر الديني اليهودي وتناسلاته المتطرفة.
في مقابل المد الإسرائيلي المتنامي، ومن أجل مواجهته، وخلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي عرفت الأرض العربية، في المشرق والمغرب ميلاد العديد من المنظمات ” الجهادية” والتكفيرية المتطرفة، نشأ بعضها من اجل مواجهة العدو / الإرهاب الإسرائيلي، ونشأ بعضها الآخر بدعوى وضع حد لاحتكار السلطة السياسية من طرف أفراد أو مجموعات، ولإعادة توزيع السلطة بين النخب الاجتماعية أو الطائفية أو القومية، لأسلمة المجتمع والدولة بعد ” تكفيرها” وجميعها تعتمد ” العنف” لغة وأسلوبا لعملها، وهو ما حول الوطن العربي إلى بقعة جغرافية مشتعلة بهاجس الإرهاب.
ويجب التذكير هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت خلال الحرب الباردة، حليفا وصديقا للعديد من الحركات الإسلامية المتطرفة، استخدمتها ضد الحركات العمالية والحركات الوطنية التقدمية، التي تمثل العدو الأول لأمريكا وإسرائيل. وراهنت عليها لمحاصرة المد التقدمي الذي شهده الوطن العربي، وجعلت من أفغانستان ساحة مناسبة لبلورة هذا التعاون، ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وتحول التعاون إلى عداء.
ويرى العديد من المراقبين، أن ظاهرة التطرف / الإرهاب التي تفجرت بالعالم العربي، كيفما كان انتماؤها. وكيفما كانت مرجعيتها، ستظل في عموميتها مجرد رد فعل لتطرف / إرهاب إسرائيل الذي ينتمي ويرتبط بوطأة السياسات الغربية تجاه العرب والعروبة وتجاه الإسلام والمسلمين وقضاياهم المصيرية وحقوقهم العادلة. ويكفي أن نتفحص السياسات الداخلية لبعض الأنظمة العربية تجاه قضايا حقوق الإنسان. أو سياسات القوى الغربية وفي مقدمتها القوى الأمريكية، تجاه الصراع العربي، الإسرائيلي، وتجاه النضال الفلسطيني، لكي نفهم بسهولة ويسر دواعي التطرف الإسلامي على الأرض العربية وخارجها ومواقف جماعات ” الإسلام السياسي” تجاه السياسات الإسرائيلية والأمريكية.
السؤال الصعب والأصعب، متى يدرك العالم المتحضر دواعي ظاهرة التطرف الإسلامي في العالم العربي…؟ وكيف للعالم المتحضر أن يوقف المد الإرهابي لإسرائيل ضد الأمة الفلسطينية… ومن خلالها إلى الأمة العربية…والإسلامية ؟.
أفلا تنظرون.