المعبر

عبدالكريم الساعدي:العراق

عبرت الجسر والعابرين، حاملاً ابنتي فوق صدري، وزوجتي تحمل صرة أسمالنا البالية، تاركين خلفنا أطلالاً وخرائب، قوافل موتى وصراخ العذارى البائسات، ألتفتُ ناحية النهر، أحدّق في ضفافه، أتوضأ بأمواجه، وقبل أن أودّع تنهداته تركت ظلال الطفولة وخفقة القلب وديعةً بين الماء والطين، كان الصمت بليغاً عند بوابة العبور، يقطعه صوت الحاج محمود، بين الحين والآخر، ناشداً مواويل الصبر:

– بزيبز*، يا بزيبز، ألا تسمعني؟ لا تحزن، سنرجع يوماً ما إليك، حينها سـأتلو سيرة الفرح باكياً، وأرقص الجوبي في الطرقات.

يطلق زفرات في الفراغ، زفرات تنبض برثاء أيام خلت، ويمضي مع الحشود. كنتُ والمعبر لوحة سريالية، امتزجت فيها ألوان الأنين، جوع الأطفال، ودموع أمّ ثكلى، مؤطّرة بحسرات شيخ خذلته السنين، أمسح بكفّي وجه العتمة عنها، لا شيء غير العتمة، أرنو لبيوت خربة موغلة بالأسى، تلوّح لنا من بعيد، تفتح ذراعيها فرحة، نترجّل عن صهوة صحراء ثكلى؛ لنحطّ الرحال عند عتبة الألم، أزيح الغبار عن نافذة خشبية، أتأبّط همّي، أيام تمرّ، في هجعة لياليها تنضج الوحشة، فتراني أبكي بمرارة، أنشدُ من يشاركني بكاء الغربة.

ابنتي التي ما انفكت تسأل عن حماماتها ولعبها، لا تسمع  غير صدى صمتي، أفزّ مرعوباً على أنينها، أنين يصدع القلب، عيناها لا تطرفان، جبينها يتفصد عرقاً، هالة سوداء تُرسم تحت عينيها، ينكأ روحي لهيبُ وجعها، يستبيحني القلق، زوجتي الجالسة على طرف السرير أراها مسكونة بالهواجس، يصفعني التوسل عند لحظة تماحك حيرتي، يستفزّني التساؤل:

– هل سنتركها تموت؟، اعمل شيئاً .

كانت الأبواب موصدة، تجتاحني الحاجة، أمسّ جبهتي، فيضٌ من الدمع يسكن مقلتيّ، لا أحد يعرفني، وأنا القادم تواً من جهة قصية، مكبّل بالخوف من المجهول، مكتظّ باللوعة، لم أكن سوى نازح يرتجي بعض أمان، كلّ شيء تركته هناك، فتراني لا أملك غير حطام أحلام تتسوّر بيتاً مهجوراً، كنّا خيولاً هزيلة، تحاول جاهدة أن تنجو بنفسها، حين انزلقت المخاوف على جادة المدينة، لم أر غير قوافل الهاربين، ترشقها المآذن بوابل من صلوات المارقين، أتّبع أثرها، تطرق أبواب الليل تكبيرات مخاتلة، تجوس الخطى حرائق، تخدش الحياء عند مفارق صفعةٍ قطفتْ ثمار البساتين. كانت الليالي موحشة، نتوسّد فيها العراء، وعيون الأعراب المسعورة تحدّق بالسبايا فرحة، تطارد الخطى المرتعشة بالخوف.

ما زال التوسل، التساؤل، يحدّق بي، يضطرم الأسى في محاجر مكحّلة بالسواد، أشتعل قلقاً، أشهق غيضاً،

” هل سأمدّ يدي متوسلاً عيون المارّة؟ لا، لن أفعل ذلك، ليس مثلي يعيش على سقط المتاع ”

يقرع سمعه أنين طفلته، صدى التساؤل يبرق ثانية في عيني زوجته اللائذة بزاوية غرفة صارخة بالبرد:

– ما العمل؟

يتماوج دمعها، يسحقها الحنين، يؤرقه وباء الجوع، يزداد وجعاً،

” مليكتي الجميلة، المحمولة على جناح الأماني، أيّ حزن تبرق به عيناك؟ وأيّ جزع يرتدي روحك البهية؟”

يمسّ ضفيرتها، يلملم أشلاء ما تبقّى من صبره، يلوذ بالفرار، وقبل أن يحتويه الطريق، يصفعه نداء جاره:

– أبا عاتكة، لا تنسَ، عشاؤك اليوم عندي… سأنتظرك.

تُومئ لي الطرقات، لا أدري أين تنأى بي الخطى، أنشد نافلة التسكع، لعلّي أهتدي إلى ثمن الدواء. ما من أحد يبصر المسافة الممتدّة بين نبض قلبي الواهن وبين ظلّ السؤال النائم تحت رمش العين، كنت أتنفس ظلام الحيرة، أمتطي صهوة الخيبة، أعدّ خطواتي التائهة على أرصفة غير آبهة بوجودي، المارّة يحدّقون في انكساري، ألوذ بظلّ ابتسامة خجولة دون جدوى، مثخناً بالوجع، ولمّا أدركني الإعياء، أحسست أنّي لا أملك قدرةً على مواصلة السير، أجلس على الرصيف، أسند ظهري إلى الحائط المجاور للمقهى، أطلق استغاثة دون وعي، ( يا الله )؛ فتأخذني سِنة من نوم. يخالني أعبر الجسر، أمسك ظلال الدار، رائحة الشبّوي تلوذ بأنفي، لا شيء واجماً أمامي، لا أدري كيف وصلتُ، هل كان الطريق يسخر منّي؟. كانت حديقتنا زاهرة بالثمر وعطر الورد، أتأمّل خضرة الأشجار، وهيبة السدرة الخضراء، الحانية على سياج الدار، عيناي تعانقان نخلة تتوسط الحديقة، لا زلت أذكر حين أتى بها والدي، عشقتها مذ كنت صغيراً، أحتمي بظلّها :

– أبي، أراك مهتمّاً بها كثيراً.

– بني، إنّها  برحية من جنوب البلاد.

أطرق باب الدار، أحسّ أنّي طفل، يهوى اللعب، أطرق ثانية، أنتظر عيوني أمّي  تفتح لي، فأنا عطش لعناقها، أتنفّس عبقها، أرقص على وقع خطواتها، يتهادى صوتها:

–  انتظر، أيّها الشقي.

صرير الباب يقرع سمعي، عيناي تطفحان بالاستغراب، اصطدم بوجهٍ ينبض بالرعب، صوته محفوف بالعواء:

– ماذا تريد.

– أين أمّي؟

يرنو إليّ بعينين حمراوين تتطاير شرراً، خلفه حشد من العيون الزائغة، تسبر أحداقي، يرتبك نبض القلب، أصفرّ خوفاً، أرتجف، سوط الرعب يجلدني، أغرق في نوبة بكاء ناشج، تمتدّ يده نحوي، تخمش أظفاره وجهي، يسيل دمي، أنفلت، ألوذ بالفرار، ترتجف الطرقات تحت خطواتي، تضيق، التفت خلفي، ذقون طويلة تطاردني، ترافقهم وجوه كالحة أعرفها، تنكت مقتاً، أدلف يمين الطريق، يبتلعني الزقاق، المدينة يلفّها صمت مطبق، يشبه صمت المقابر، ثمة موتى تتوسد التراب على جانبي الطريق، أشلاء مبعثرة هنا وهناك، كلاب و قطط نافقة، طيور تحلّق في دخان كثيف، تغتالها رائحة البارود، الناس تهرول في طريقها إلى الجسر، تهمّ بالعبور، الجسر يمدّ عنقه، أصرخ فيهم، لا أحد يسمع صراخي،  أغمض عينيّ لعلّي أجد زوجتي وصغيرتي الجميلة، وقبل أن يخيم الليل، كان النهر بعيداً، تلفّني غيمة من رماد، ألوح بيدي للعابرين، وقبل أن تبتلعني أجفل على صياح صاحب المقهى:

– اجمع نقودك وارحل، المكان لا يصلح للتسوّل.

أحدّق في المكان، أراني  مفترشاً الرصيف، مسنداً ظهري إلى الجدار، أتمتم بصوت مسموع:

– يا الله، يا الله، يا….

استرخي على أمر غير مــألوف، حالي يرثى له، أغضض بصري، أختبئ خلف ابتسامة كليلة، أجمع النقود وأمضي مسرعاً، أحثّ الخطى فقد أدركني العشاء، كان الطريق موحشاً. جاري المسكين يلوّح لي عن بعد، متّكئ على عكاز ملفوف بخرقة بالية، كان فرحاً بقدومي, ينقل خطاه في اتّئاد، يرتّل حفاوة الترحاب، يبعث في القلب مسرّة، يقيّدني الخجل، أدخل الدار خلفه، أتسمّر مكاني، تغشاني فرحة لمّا أبصرت ابتسامة عريضة ترتسم على شفتي عاتكة، تقبل عليّ فرحة:

– بابا، بابا، أنظر إلى لعبتي، أليست جميلة؟

أطوّقها بيدي، أضمها إلى صدري، أقبّلها، كم كريمٍ أنت يا إلهي. تعاود اللعب مع الصغيرات، كانت بنات جاري شاحبات اللون، حافيات، جلسنا في باحة الدار، لبثت ساكتاً، أستكشف حال هذا الرجل الكريم، لم تكن في الدار إلّا غرفة من طين،  كان الفقر والحزن فيه غارقاً، سرت في داخلي شفقة وحزن عليه، لم يكن أمامي إلّا أن أدسّ يدي في جيبي، أخرج النقود وأنثرها على بناته.

 

*بزيبز: جسر يربط محافظتي الأنبار وبغداد، عبرت عليه موجات من النازحين بسبب استباحة محافظة الأنبار من قبل تنظيم (داعش) الإرهابي.

 

 

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد