خضر عواد الخزاعي
كما عودتنا الروائية والقاصة الجزائرية ياسمينة صالح تطل علينا بنصها السردي الثالث “وطن من زجاج”الصادر عن الدار العربية للعلوم /ناشرون 2006بعد “بحر الصمت”2001 و”احزان امرأة من برج الميزان” 2002 . وهي تخوض في جزيئية مهمة من تاريخ بلدها الجزائر، فترة “العشرية السوداء”1992- 2002 .
نص كتب بأسلوب التقرير الصحفي “Report” ريبورتاج وهو عمل ليس بالمستبعد عن اهتمامات الكاتبة ياسمينة صالح التي امتهنت العمل الصحفي في الحقول الثقافية والسياسية في صحف جزائرية وعربية. وبأسلوب سردي طغى عليه صوت السارد الذكوري ينفتح النص لينقلنا السارد معه في متون حكاياته التي كانت في أغلبها نتاج تلك المرحلة/ المأساة.لتكون شخصية “عمي العربي” هي المدخل الاول لمعترك النص وربما من خلاله نتلمس الاسباب التي قادت الجزائر الى فاجعة “العشرية السوداء”، فعمي العربي لم يلتحق بالثورة وهو في سن العشرين من عمره، عن وعي ثوري واجتهاد وطني، بقدر ماكان رغبة للانتقام من المحتل لمقتل اسرته على يد افراد الكوماندوز الفرنسي وهو في سن الثالثة من عمره.”الم تكن الضغينة من صنعت شخصيته القوية؟.ص14″. فتلك الضغينة لم تصنع له الشخصية القوية فقط، بل الشخصية القادرة على القتل دون تمييز الهوية، أو الشعور بالضعف إلا في مرتين كادتا أن تكلفاه حياته، عندما سمح لنفسه في المرة الأولى أن يستمع للضحية ليعبر عما يجيش بصدره، حينما باغته بالسؤال الذي لم يكن يتوقعه”لماذا؟” ليضعه في صميم مأساته الشخصية، فلايجد ما يجيبه به غير ماتعود أن يقوله للآخرين قبل أن يطلق عليهم الرصاص ليقتلهم”لأنك فرنسي كلب”. لتدفعه تلك المحاورة الصغيرة الى الشعور المهين بأنه ليس أكثر من قاتل مأجور، سيصادف ذات يوم نفس مصير القتيل، فهو اختار هذا الطريق”القتل” ليس من منطلق الشعور العالي بالوطنية والانتماء المنظم بفكر آيدولوجي لقضية آمن بها، من دون أدنى مؤثرات شخصية أو عائلية، بل هو وجد نفسه مدفوعاً برغبة الانتقام لنفسه وأسرته مما حصل لهم”لا صورة أخرى غير صورة الوطن الذي يمتد واسعاً كما الفجيعة، هناك، كل أرملة تشبه أمه، وكل معتقل يشبه أباه، وكل بيت يترك كرسياً فارغاً حول مائدة العشاء هو بيته ص18″.فيما المرة الثانية حدثت حينما كان عليه أن يقوم بتصفية أحد العناصر العميلة للمحتل الفرنسي، الذي كان يقوم ببيع ابناء جلدته للعدو، ويبدو ان سيرة العربي قد انتشرت في أوساط الشارع الجزائري وقتها كصياد محترف، يقتفي أثر العملاء ويقوم بتصفيتهم، حين يفاجئه العميل بالسؤال”أنت هو العربي أليس كذلك؟”مما يجعله بقف حائراً للمرة الثانية، ليصدمه الرجل بحقيقة ربما كانت غائبة عنه، وهيّ ان كل ما يقوم به من عمليات قتل هيّ بالأساس موجهة ضد جزائريين، فهو موكل من قبل الجبهة ليقوم بتصفية جزائريين مثله، تلك حقيقة ربما لم ينتبه لها، أو أنه، لم يقرأ ما بين سطورها، فالقضية أكبر من تصفية حسابات بين أشقاء على تركة لم يحن بعد اقتسامها، إنها قضية وطن، شائت أقداره أن ينقسم ابنائه، بين مناضلين وعملاء، وليس هناك من جهة موضوعية أو محايدة، تأخذ على عاتقها، عملية الفصل الصعبة بين الوطني والعميل، بل تركت لمن بيدهم السلاح لمقاومة المحتل، بكل ما يحملونه من خلفيات ودوافع شخصية وسلوكية، سنكتشف ذلك في خاتمة النص السردي، حين يشير العربي الى ذلك الشخص الذي فشل في تصفيته، والذي حوّله الى رجل معوق بعد أن فقد ساقه وشلت يده، من انه نفس العميل الذي تصدى له والذي اصبح في وقت متأخر بعد الاستقلال أحد الشرفاء، الذين قدموا أنفسهم للوائح الانتخابية، للدفاع عن الفقراء والمساكين.
في الجزائر بنسختها المقاومة للمحتل الفرنسي، في منتصف الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وبنسختها الثانية، الجزائر المستقلة، والتي أُهدرت ثرواتها بين الزعماء والقادة السياسين، والجزائر بنسختها الثالثة، حين تحوّلت الى ساحة حرب وتصفية حسابات، في “العشرية السوداء”بين المؤسسة الحاكمة، والتنظيمات الإسلامية، التي وجدت المجال رحباً لتعمل وتنشط بين أوساط الشباب العاطلين عن العمل وجموع الفقراء والمحرومين. الذين كانوا نتاج سياسات اقتصادية واجتماعية متخبطة وغير مدروسة، في هذه الجزائر المُستنسخة على مدار نصف قرن، يتشابه الضحايا، مهما اختلفت المسميات، سواءاً كان ضابط الدرك البشير، الذي يلاقي حتفه وهو يطارد القتلة في أحياء المدينة، أو المجاهد القديم عمي العربي، أو معلم القرية الذي يفقد وظيفته ويموت معدماً لأنه جاهر بالحق ضد سلطة رئيس البلدية،، أو العمة العانس دميمة الوجه، أو عامل الاسطبل الذي شاء حظه العاثر ان يوقعه بحب ابنة اقطاعي، أو حتى الاقطاعي الجد عبدالله الذي هو افراز طبقة اجتماعية، وجد نفسه ينتمي اليها بقدره، أو الصحفي النذير،الذي يدفع حياته ثمناً للدفاع عن الحريات والحياة المدنية، أو المصور كريمو الذي يقتل هو الاخر لعمله في الصحافة، أو النقيب هشام. كان يمكن للرواية أن تبدأ بهذا السؤال المباشر والصريح “مالذي يجري حقا؟” فليس من الواقعية ولا من المعقول الحديث عن “مسلحين”. بل يجب أن تصاغ وقائع الحياة اليومية بهكذا أسئلة: من يقتل من؟ من يشعل النار في حقول الاخرين؟ً من يرمي الناس في الفظاعة؟ ولماذا يموت الناس بسبب خطأ لم يرتكبوه؟.أمام مرآى الجثث المبعثرة على الارض، والأطفال المذبوحين، والخراب الذي يصيب المدن والبلدات، يجب إعادة انتاج مفاهيم معقولة لحياة استثنائية.
لتفادي زحمة التفاصيل في نصها السردي القصير Novel” ” قسمت الكاتبة النص الى مستويات أفقية ارتبطت معارفياً بالتحولات والانتقالات التي عاشها السارد”وجه الشر” كما كان يطلق عليه أهل القرية، بسبب الحياة المشؤومة التي عاشها في طفولته، بعد فقدانه لوالدته اثناء ولادته، ثم فقدانه لأبيه بعد هروبه من القرية لرفضه الزواج من ابنة رئيس البلدية، ثم فقدانه لعمته العانس، التي رفض جده تزويجها من عامل الاسطبل، ففي سن العاشرة تبدأ تتفتح عنده أولى بواكير الوعي، مع استيعابه لمديات قريته البائسة وهو يدخل المدرسة ويلتقي المعلم الذي يتعاطف معه، في سن الحادية عشر كان يصطحب أطفال القرية للسباحة في النهر حيث يموت معظم رفاقه، ثم يطلق عليه أهل القرية بعد تلك الحوادث اسم “لاكامورا “من لا حق له في الموت براحة، في سن التاسعة عشر تبدأ مرحلة ثانية في حياة البطل، بعد وفاة جده ومغادرته القرية الى الأبد، ودخوله الى الجامعة، وبعد تخرجه من الجامعة يعمل في الصحافة.”أن اقول للناس عبر الكتابة ما لا يمكنني قوله لهم وجها لوجه”، المرحلة الثالثة في حياة البطل، حين لقائه بنذير والعمل معه بالصحافة، ثم لقائه شقيقته وتعرض نذير للقتل بعد خروجه من بيت أهله.
رواية”وطن من زجاج” محاولة سردية، لم يكن الهدف منها تقديم هذا الكم الهائل من المعاناة والخراب، والقتل والجريمة، وتشابك الخنادق بين الأخوة الأعداء ورفاق السلاح،بقدر ماكانت مهمة عسيرة، طرحت من خلالها الكاتبة ياسمينة صالح، كل ما كان يدور في رأس المواطن الجزائري العادي من أسئلة مُلحة عن الاسباب الحقيقية للمشكلة التي عصفت بالجزائر الحديثة، بعد الاستقلال، ويمكن اعتبارها دراسة(anthropology) معاصرة في تأريخ الانسان الجزائري، ليتم من خلالها فهم اطروحة البطل المفزعة” فهل ثمة انسان سعيد في هذه البلاد سوى فاقدي القلب والذاكرة.ص68″. في بلاد يكون فيها القتل من قبل الجماعات المسلحة تحت ذريعة “الطاغوت” لكل من لاينتمي لهم.ص69.حينما تتحول الدولة في عقول الناس المحاصرين بالموت، الى أداة جريمة وشاهد زور على عمليات القتل العشوائي التي تطال الابرياء، كما حديث الرجل العجوز مع البطل،”اكتب ان الدولة التي تقتل شعبها لاتستحق أن توجد.ص71″. في وطن لايكتب سيرته الذاتية، ويدافع عن نفسه، كما يفعل البشر، بل هناك من يتولى المهمة بالنيابة عنه، مع اختلاف النوايا والمصالح والانتماءات، ومع رواية”وطن من زجاج” لا يسعنا إلا أن نشيد بالجرأة التي اتسمت بها الكاتبة، ومارستها وهي تسطر نصها السردي، وبالجهد المهني الذي بذلته، وباللغة البليغة التي جعلتها طوعاً لتدرجات النص وتنوعاته الفكرية، مستفيدة من الزج بمفردات جزائرية ومقاطع شعرية وغنائية، بين متون النص لتزيده ثراءاً وحميميةً.