حج بدون كوارث…ممكن؟

بديعة خداد : إعلامية مغربية

الآن و قد مر عيد الأضحى المبارك، و تبادلنا التهاني و ازدردنا قضبان الشواء في كل وجباتنا اليومية، و نحن نتبادل الحديث و الأخبار و التدوينات و صور الضحايا عن فاجعة “منى” قرب جسر الجمرات،  التي قضى فيها 769 حاجا و حاجة إضافة إلى المصابين و المفقودين. استأنفنا حياتنا بعد أن طوينا صفحة الفاجعة كما طوينا قبلها صفحات مشابهة. ما أحزنها من أخبار تلك لتي سمعناها وقرأناها صبيحة عيد الأضحى. الرقم ثقيل، لكننا ننطقه و نكتبه بخفة كمجرد رقم، و ننسى أنه يعني أشخاصا تحولوا في رمشة عين إلى جثت تكدست فوق بعضها البعض، في منظر مهين و حاط من كرامة الإنسان و كرامة الميت،جثت رصت بجانب بعضها البعض بجانب أكياس القمامة المتكدسة في جنبات “منى”.

لست هنا بصدد الانتقاص من المجهود الكبير الذي يبذله المشرفون على تنظيم الحج، فالإصلاحات واضحة، و تطوير و توسعة أماكن المشاعر خاصة في جسر الجمرات، الذي عرف إصلاحا كبيرا بعد فاجعة 2006، التي راح ضحيتها 360 من الحجاج أثناء قيامهم برمي الجمار لا تنكر. كما أن مواسم الحج منذ ذلك التاريخ خلت من الكوارث و المآسي. ولكن جاء موسم حج 1436/2015  ليرج النفوس رجا، و يذكرنا بكوارث مواسم ماضية،و يؤكد أن ثمة فعلا ثغرات في التنظيم لم يكن يتم التعامل معها بحزم و يقظة شديدين، ثغرات مهما كانت بسيطة و صغيرة، منالممكن جدا أن تتحول إلى فاجعة في أي موسم حج. ومن سبق له أن أدى فريضة الحج يلمس بقوة هذه الثغرات، التي لا تثار إلا عندما تحدث الكارثة فجأة في غفلة من الجميع.

ثمة عدة ملاحظات احتفظت بها لنفسي عندما أكرمني الله سبحانه و تعالى بأداء فريضة الحج عام 1432/2011،  كنت أتساءل حينها كلما وجدت نفسي محشورة وسط كتل بشرية تتلاطم كأمواج البحر، لماذا لا يتم تدارك تكتل الحجاج و احتباسهم في أماكن لمدة من الوقت؟ لماذا لا يتم الإسراع بتفكيك أي تكتل بشري قبل أن يدخل الحجاج في مرحلة التدافع ثم السقوط؟فالهاجس الذي كان يستبد بنا في ذروة لحظات الزحام هو أن يسقط أحدنا، لأن السقوط في مثل هذه التكتلات البشرية الضخمة، يعني الفوضى و الفزع و الهلع.في موسم حج 2011،  مرت الأمور بسلام رغم المعاناة بسبب الزحام  والتدافع الشديدين، سواء في مصاعد الفنادق حيث كان علينا الانتظار طويلا قبل أن يحين دورنا، كان الانتظار في كثير من الأحيان يطول لساعات، لدرجة أن كثيرين كانوايفقدون الأمل فلا يجدون بدا من صعود درج الفندق ليدلفوا غرفهم الموجودة في الطابق العاشر أو الحادي عشر أو أكثر لاهثين. أو أثناء النفرة من عرفة بعد غروب الشمس، أو في منى او داخل الأنفاق عندما تتوقف الحافلات لساعات، يشعر خلالها المرء بالاختناق و الضيق رغم تشغيل نظام التهوية. و قد سبق لتعطل نظام التهوية في الأنفاق خلال  موسم حج 1990، أن أدى إلى فاجعة تعتبر الأعنف و الأقسى في تاريخ مواسم الحج، إذ قضى فيها 1426 حاجا اختناقا.

لا زلت أتذكر سيدة كانت ضمن مجموعتنا، يبدو أنها عانت كثيرا، سألتني عندما علمت اني أشتغل في مجال الإعلام، إن كنت سأكتب عما عشناه من معاناة لم تكن متوقعة طيلة الأيام التي قضيناها في منى.كنت لحظتها مصدومة من استسهال المنظمين للكثير من العقبات لتي كانت تصادف الحجاج، وتجعلهم ينصرفون بأنانية تجاه بعضهم البعض. أكدت لها عزمي على الكتابة عن هذه الرحلة الإيمانية و الروحية الرائعةو ما تخللها من مواقف مؤسفة. و لكن بعد العودة و بعد مرور الأيام و السنوات، عدلت عن الفكرة، معتبرة أن الإصلاحات الكبيرة التي عرفها جسر الجمرات و لمسناها بأعيننا، والتوسعة التي يعرفها حاليا المسجد الحرام، لا تقارن بما عانيناه من زحام شديد و ظروف محرجة ومرهقة في مرافق النظافة ب”منى” .لكن ما حدث خلال موسم حج 1436/2015، حرك هواجس وتساؤلات حج 2011، منتشلا إياها من غياهب و منعرجات الذاكرة. تساؤلات ألخصها عبر شقين: الشق الأول خاص بالحجاج أنفسهم، لأن كثيرين منهم لا يتعاملون برفق و أخوة فيما بينهم، بل كثيرا ما يسارعون إلى التدافع غير المبرر في مواقف لا تتطلب ذلك، أو لا يلتزمون فعلا ببعض التعليمات التي قد تبدو لهم تافهة وبسيطة، ابتداء من إهمال وضع السوار الخاص بكل حاج و حاجةحول المعصم، إلى عدم احترام جدولة التفويج في “منى” لرمي الجمار، حيث يسارع كثيرون إلى الانفصال عن مجموعاتهم، ويختارون وقتا خاصا بهم للذهاب إلى جسر الجمرات بعد رجوعهم من مزدلفة.

أما الشق الثاني و هو الأهم، فيتعلق بالمسؤولين عن تنظيم الحج أو لنقل وزارة الحج. فإذا كان الدور الأساسي لهذه الوزارة هو الإشراف على تنظيم الحج، فهذا يعني أن مسؤوليها من المفروض أن يضعوا في اعتبارهم،أن تنظيم موسم الحج و عدم الاستهانةبالمشاكل الحقيقية التي  تعترض الحجاج، هو محور عملهم و مسؤوليتهم الجسيمة،خاصة خلال أيام الحج المعدودات، انطلاقا من يوم التروية، مرورابالوقوف بعرفة و المبيت بمزدلفة و انتهاء برمي الجمار “بمنى”، بدل إلقاء اللوم عليهم.فالحاج يكون في حالة إجهاد مستمرة و غير عادية، بسبب السفر و الوقوف لساعات في المطارات و ظروف الإقامة، الني تكون في كثير من الأحبان غير مناسبة و منهكة للقوى. لذلك، من الظلم أن نحمل الحجاج نتيجة ما يحدث من كوارث، قد يكونون سببا فيهاو لكن مسؤولية التنظيموالتدبير لا تقع على عاتقهم.أيام معدودات تنطلق من ثامن ذي الحجة (يوم التروية) إلى 12 ذي الحجة بالنسبة للمتعجلين، و 13 ذي الحجة بالنسبة لغير المتعجلين، ألا يمكن خلالها مضاعفة جهود التنظيم و اليقظة إلى أقصى درجة؟ألا يمكن الاستفادة من خبرات دول في كيفية التعامل مع التكتلات البشرية الضخمة و لو بطريقة غير مباشرة؟أم كتب على الحجاج في كل موسم أن يتركوا عرضة للرفس و التدافع وكأنه قدرهم،و لا يتم التدخل إلا بعد فوات الأوان؟

في الواقع، من العادي و المتوقع أن يقترن أي موسم حج  بالمعاناة التي تعترض الحجاج. قد يقول قائل، إن المعاناة مطلوبة و مرغوبة في الحج لأنها تغسل الذنوب، و الموت في رحاب المشاعر المقدسة من أحسن الخواتيم، لا اعتراض على ذلك. و لكن، هل يمكن للمريض مثلا أن يطلب منه أن يعاني دون مراجعة الطبيب بانتظام، و التقيد بالعلاج و إجراء التحاليل الضرورية الروتينية؟. إن المعاناة في الحج لا مفر منها،لكن الاستخفاف ببعض انعكاساتها و اعتبارها من الأمور المسلم بها، هو الذي أدى إلى وقوع كارثة موسم هذا العام، فكما يقال ليس كل مرة تسلم الجرة، فارتكازا على تجربتي في حج 2011 الذي مر بسلام و الحمد لله، أؤكد أن سلامة هذا الموسم او غيره من المواسم  بعد فاجعة موسم 2006،  لا يعني أن الأمور كانت هينة، بل كان من الممكن في أي لحظة أن تحدث كارثة بسبب التكتلات البشرية، سواء أثناء النفرة من عرفة بعد غروب الشمس، حيث يحصل زحام وتدافع شديدين، وقد تعرضت فعلا مجموعتنا أثناء النفرة من عرفة لتدافع رهيب، ولا زلت أذكر كيف علق طرف حجاب إحدى الحاجات بكرسي متحرك لحاجة أخرى مقعدة و كادت أن تسقط، فاضطررنا للتوقف على شفا جرف لمدة من الوقت حتى  خف الزحام قليلا، كانت طائرة مروحية تحلق في الأجواء، و هذا ما جعلني أشعر ببعض الأمان. أما في “منى”، فلا أنكر أن عملية رمي الجمرات تمت في ظروف جيدة رغم الزحام،  لكن الإقامة بها كانت مرهقة و مهينة للغاية بالنسبة للكثيرين، خاصة فيما يتعلق بمرافق النظافة، التي أثرت كثيرا على نفسية الحجاج و روحانيتهم بسبب التزاحم الشديد عليها طيلة اليوم، لدرجة أن النساء كن يضطررن في بعض الأحيان إلى اقتحام مرافق النظافة الخاصةبالرجال في حالة عدم اكتظاظها.

اؤكد مرة أخرى أنني  لست بصدد الانتقاص من جهود منظمي الحج، أو استغلال هذه الفاجعة لتأجيج الأوضاع المحتقنة في العالم الإسلامي،فنحن في غنى عن مزيد من الفتن. و لكن لا يعقل أن يتحول موسم من مواسم الحج إلى مأتم جماعي سرعان ما ننساه، و نستعد لموسم جديد و كأن شيئا لم يقع.فمن المِؤكد أن الأخطاء التنظيمية في مواسم الحج ما زالت موجودة حتى و إن كانت بسيطة، فخطأ بسيط في مثل هذه الظروف، قد يؤدي إلى فاجعة كما حدث في هذا الموسم، و إذا لم يتم الاعتراف بها بكل شجاعة وإنسانية و أمانة،فكوارث الحج لن تنتهي مهما بذل من اموال طائلة. كما أن الدول التي يذهب بعض مواطنيها إلى الحج من الممكن أن تساهم في عملية التنظيم بطريقة غير مباشرة، و ذلك من خلال مضاعفة جهود بعثاتها في مرافقة الحجاج و تأطيرهم ميدانيا و مساعدتهم مساعدة ملموسة. فكفى استهانةواستهتارا بأرواح الحجاج و كرامتهم و كرامة عائلاتهم و ذويهم.وعسى أن توقظ هذه الفاجعة الضمائر النائمة المتكلسة، و تحرك في القلوب مشاعر الإنسانية و الرحمة و التواضع، في زمن أصبحنا نعيش فيه على وقع الأنا المتضخمة.

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد