بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
كثر الجدل وتعددت الروايات حول ما جرى في مكة المكرمة وفي مشعر منى الحرام، واستفاض المحللون في تحليل الحادث الأخير، وأطلقوا العنان لأهوائهم وخيالاتهم، وجادت أقلامهم وألسنتهم بما علموا وحللوا، بحسن نيةٍ وسوء نيةٍ، وبتجردٍ ومحاباة، وبمصداقيةٍ وبغير واقعية، وبشفافيةٍ وانتقامية، وبحياديةٍ واتهام، وبمنطقيةٍ وفوضويةٍ، وبعلميةٍ ومهنيةٍ وأحكامٍ مسبقةٍ دون رويةٍ، وبشهادة عيان ورواية غيابٍ، وبكل ما تناقض واختلف من الأفكار والأهواء، والتحليلات والآراء، التي زادت المسلمين حيرة، وأدخلتهم في متاهة التأويلات والتفسيرات، التي كان للشيطان فيها متسعٌ كبيرٌ ومكانٌ رحبٌ، وما زال في مكانه ينشط، وبين المسلمين يعمل.
وأدلى شهودٌ بروياتٍ مختلفة، ونسجوا قصصاً عديدة، كلٌ يروي من الزاوية التي كان فيها وشهد أحداثها، متهمين السلطات المسؤولة بأنها تسببت في الحادث، وأنها أخطأت في إغلاق الأبواب وحجز الحجاج، ثم فتحتها فجأة ما أدى إلى إلى تدافعٍ مهولٍ، أو أن السلطات قامت بمنع الحجاج من المرور وحجزتهم ليتمكن أميرٌ وحاشيته من المرور لأداء المناسك وحده بعيداً عن تدافع الحجيج.
وآخرون يرون أن الحجاج تدافعوا وأسرعوا، وأنهم خالفوا الأوامر والتعليمات، وساروا بعكس الاتجاه، وبصورةٍ مخالفة، وما كان ينبغي لهم ذلك، ما أدى إلى التدافع وسقوط هذا العدد الكبير من الحجاج قتلى دهساً وخنقاً، وغير ذلك من الروايات وشهادة الحجاج.
أما كاميرات الحجاج المختلفة، التي تمكنت من تسجيل زوايا مختلفة من الحادثة، فقد نقلت صوراً مؤلمة، وجوانب مأساوية من الفاجعة، سواءً لحالة التدافع، أو لمشاهد جثت الحجاج وبعضهم قتلى وآخرون أحياء، والكل يجري ويبحث عن ذويه ومرافقيه، وفي الحجيج أطفالٌ ونساءٌ وشيوخٌ وعجزة، ورجالٌ أقوياء وشبابٍ أشداء، وكلهم قد أصيب وما فرقت الفاجعة بينهم، ولا ميزت بين جنسياتهم، وهي بمجموعها تشكل صورةً مختلفةً وروايةً جديدة، ينبغي التوقف عندها، وجمع جزئياتها، وتحليل بياناتها، وعدم إهمال أيٍ منها ولو كانت صورةً عابرةً، أو مشهداً صغيراً.
أما الجهات الرسمية في المملكة العربية السعودية فقد أصدرت توضيحاتٍ عدة، وتفسيراتٍ مختلفة وإن كانت غير رسمية وغير نهائية، في انتظار نتائج لجنة التحقيق التي كلفت بتقصي الحقائق، ومعرفة الأسباب الحقيقية التي تسببت في هذه الفاجعة التي مني بها المسلمون عموماً والحجيج على وجه الخصوص، وقد سبقت بإقالة وزير الحج وعددٍ من المساعدين والمسؤولين المباشرين عن تسيير فريضة الحج، وأعلنت أنها ستمضي في التحقيق والاستقصاء، لتصل إلى الحقيقة كاملةً، وستحاسب المسؤولين عن الحادثة، وأنها لن تتهاون في محاسبتهم وإنزال العقوبة الرادعة والزاجرة بهم.
وقد أطلق الكثير من المتابعين أحكامهم المسبقة، وروايتهم الأخيرة، فجاءت قاسية ومتناقضة، وغريبة ومؤلمة أيضاً، فهذا فريقٌ يتهم السلطات المسؤولة بأنها افتعلت الحادثة وتعمدت وقوعها، كما أنها كانت عاجزة عن الحركة بعدها، وتأخرت في الإنقاذ، ولم تتمكن من التدخل السريع الذي كان من الممكن أن ينقذ البعض ممن كانوا عالقين تحت الأجساد، وطالبوها بالاعتذار إلى المسلمين أولاً، ثم بتسليم مفاتيح الأماكن المقدسة في مكة والمدينة المنورة إلى إدارةٍ إسلاميةٍ عامة، تتبع مؤتمر الدول الإسلامية، وتكلف بمهمة الرعاية والمتابعة والإشراف، والعمل على إيجاد وخلق أفضل السبل لتفويض الحجاج في كل المناسك بيسرٍ وأمنٍ وسلامة.
وآخرون يتهمون الحجاج بالسفة وقلة العقل، وأنهم الذين خالفوا التعليمات وسابقوا الآخرين وزاحموهم، وأنه لا ينبغي السماح لأي حاجٍ بأداء مناسك الحج ما لم يأت بشهادةٍ من بلاده تثبت أنه اجتاز دورة الحج الخاصة، وأنه نجح في امتحان المناسك، وخاض كل التجارب المتوقعة، وأصبحت لديه الخبرة والكفاءة المناسبة، علماً أن أقلاماً مؤذية قد تجرأت على الحجاج وقست عليهم، وحملتهم مسؤوليةً كبيرة، وكأنها تريد أن تدينهم وهم الضحية، وتبرئ آخرين وهم المسؤولين، وإن كان بعض النقد لهم قد جاء ساخراً منهم ومتهكماً عليهم، بقلة أدب وسوء خلقٍ، لا يقبل به الإسلام ولا يرتضي به العقل السليم.
لهذا كله ولغيره مما سيلي وهو كثيرٌ ومبررٌ، فإنه ينبغي على السلطات السعودية أن تجري تحقيقاً شاملاً وافياً، شفافاً نزيهاً، معلناً مكشوفاً، صريحاً واضحاً، يشارك فيه آخرون غيرها ومسؤولون سواها، ممن سقط لهم في الحادثة قتلى أو من غيرهم من أبناء الأمة العربية والإسلامية، وأن تعجل في إجراءاتها، وأن تدقق في كل المعطيات لديها، وأن تطلب من كل من لديه صورة أو عنده شهادة أن يتقدم بها، لتكون جزءاً من التحقيق وأساساً في الاستقصاء لمعرفة الحقيقة كاملةً، ذلك أن الحادث يستدعي الدقة والمسؤولية، والأمانة والإخلاص، والتجرد والصدق، وعليها أن تتصف بالصبر والحلم، وسعة القلب ورحابة الصدر، وأن تتحمل كل نقدٍ وأن تستجيب لكل نصحٍ، وألا تغلق الباب في وجه غاضبٍ أو ناقدٍ، فهي أكثر من يتحمل المسؤولية، وأشد من ينبغي أن يحاسب، وأكثر من يجب عليها أن تصغي وتسمع، وأن تغفر وتسمح، فإنها في موقعٍ ومكانةٍ تجعل منها موضعاً للسؤال والحساب، والنقد واللوم.
وإلا فإنها تساعد في تعميق الأزمة، وزيادة حدة المشكلة، وتعطي الجميع العذر في إطلاق الأحكام، وإشاعة الروايات والتفسيرات، وتصديق الاتهامات وحياكة التأويلات، ولهم الحق في ذلك كله، إن رأوا تقصيراً أو إحجاماً، أو تأخيراً ومراوغة، أو هروباً وفراراً، أو تجييراً وإلقاءً للتهم جزافاً، أو تبرئةً لمسؤولٍ واتهاماً لمسكينٍ، فهذا حادثٌ أليمٌ لا ينبغي أن يكون سياسة، ولا يحق لأحدٍ أن يجعل منه موضوعاً للتشفي أو الانتقام، وإنما يجب أن يكون عتبةً للتجاوز، ومنصةً للانطلاق نحو أمانٍ أكثرٍ، وسلامةٍ أفضل