ضد مجهول

بقلم محمد مكاوي

تم في هذا الصباح القارس العثور على جثة يبدو أنها ليست من سكان هذه الأرض.

عيناها جاحضتان كأنها ماتت مخنوقة، وسطى يد الجثة اليمنى تشير إلى اليسار، ووسطى يدها اليسرى تشير إلى اليمين.

كما العادة، وصل المحققون إلى مكان الجريمة…

مكان الجريمة هو الحدود الجغرافية والدينية والسياسية والاجتماعية التي لم يتفق بشأنها اليمين ولا اليسار ولا الوسط.

المحققون أحاطوا مكان الجريمة  فحصوا الجثة ثم أخذوا صورا من جميع الجهات وتفقدوا المكان بكل احترافية.

غطوها بإزار أبيض وبدأوا في تمشيط المكان.

من المهم أن تموت غريبا على هذه الأرض لأنه وقتها فقط يمكن أن يفحص نبضك الطبيب ويسلمك المقدم شهادة الوفاة وتحمل جثتك على سيارة لم تركبها عندما كنت حيا. وقد تغطى بعد عراء.

فريق آخر من المحققين أخذ يبحث في ملابس الجثة عن أوراق هوية فلم يعثر عليها؛

أخذت عينة من أماكن يعرفها المتخصصون وراحوا يعمقون البحث

عادوا إلى الأرشيفات ليفتشوا في أرجائها…

انتشر الخبر في مختلف أرجاء الأرض وتم نقل صور الجثة على جميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة في مختلف أنحاء الكرة الأرضية وبكل اللغات واللهجات والإيماءات. وحدها وسائل الإعلام تأسفت للحدث وتألمت له ورفعت درجات التأهب القصوى لمتابعته بالصورة والصوت.  .

بعد تحقيق وتدقيق وبحث تبين أن هذه الجثة هي جثة “الحق”.

لكن المشكلة كيف يتعرفون على قاتل الحق إذا مات !

بدأ الشك في اليسار؟؟؟

اليساريون هم من قتل الحق من دون أدنى شك، فقد وجدوا رأس الجثة موجهة لليسار، والرجلين ممددتين لليمين.

نصبت محاكمة عادلة يغيب فيها الحق لمحاكمة اليسار.

تقدم اليساريون واحدا تلو الآخر وحين يكشف لهم الضابط عن وجه الحق يتبرأون منه “نحن براء من هذا، منذ متى كنا أصحابه أو أهله أو ذويه هذا الشيء لا ينتمي إلى تيارنا ولو كنا نحن من قتلناه فلا يمكن لوسطى يده اليمنى أن تنعتنا”.

وأردفوا مؤكدين “من ناحية ثانية تاريخنا يبين أن لا علاقة بيننا وبينه ولنا شاهد على العصر”.

اليمينيون بدورهم أنكروا الفعلة وأصروا على أنهم براء من هذا وأن العفاريت وحدها تتنكر”.

إنها كمين نصبه الجميع ونجوا منه بحكم الباطل.

البحث ما زال جار حول عنوان الضحية وسبب قتله والدوافع وراء ذلك.

لكن رائحة جثة الحق بدأت تزكم أنوف بعض الجهات،

قال أحد أفراد المحققين: “الجثة بدأت تتعفن وإكرام الميت في دفنه”.

للمرة المليار يجمع اليمين والسيار والوسط والنخبة على الاختلاف..

المشكلة أين سيتم دفن الجثة ؟

 

قرعت الحروب حول مكان الدفن وتم اقتناء أحدث الأسلحة للدفاع عن الحدود حتى لا يدخلها الحق.

قتل الرجال والنساء والكلاب والشحاذون من أجل عدم قبول دخول جثة الحق بأسلحة تم اقتناؤها من عرق الجبين، كما أن أهل الوسط طلبوا من مجلس الأمن ومن الأمم المتحدة سحب الجثة؛ لأنه لا يمكن القبول ببقائها متعفنة بينهم.

عقد أهل اليمين اجتماعاتهم في المعابد والأسواق والثكنات وفي المقابر والأماكن العامة وغير العامة ليحاربوا دخول جثة الحق عندهم.

كتبوا شعارات مدبجة وعلقوا رايات تعلن رفضهم لدخول هذه الجثة حتى لا تعدي المنافقين والخونة وأعلنوها ثورة حتى النصر.

كنا نريد أن نموت من أجل دخول الحق الوطن لكننا اليوم مستعدون للموت من أجل عدم دخوله أرضنا.

بفعل الحرب والجهل والتعصب والظلم تكاثر شيوخ وشيخات الدين والمال والجنس فلم تعد من أولى المشاغل الجثة بل تم خوض حرب ثانية حول من له حق الإفتاء في دخول الجثة: الشيخ أم الشيخة أم مجلس الشيوخ ؟

لجأ بعض من اليمين المتسامح عند اليسار المتشدد وبعض من اليسار المتسامح عند اليمين المتشدد فخيضت الحرب الثالثة تحت غطاء من سمح بهذا الاختلاط الحرام ؟

قتل الأخ أخاه واغتصب الأخت وهتك عرض دار شيدها الجد بكفاحه اليومي.

تكونت مذاهب جديدة وعمت اللادينية وظهرت ديانات رقمية  شملت  اليمين كما اليسار ونصب بفضلها بعض الزعماء بدرجة الأنبياء والمخلصين وصنعت تلك الديانات الرقمية من بعضهم الآخر آلهة؛ وبقيت جثة الحق في الزاوية.

قبل أن يخرج اليمينيون من أرض اليسار، دمروها وحولوها إلى أنقاض. وقبل أن يخرج اليساريون من أرض اليمين دمروها وحولوها إلى خراب.

دامت الحرب منذ قابيل وهابيل فتحللت جثة الحق وقيدت ضد مجهول.

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد