ومن أغنية عصفور وحيد سـينهض العالم مرة أخرى

الأديبة السورية سوزان إبراهيم

من أعماق الغابة السوداء الشهيرة بجمالها ينبع نهر الدانوب، الدانوب نهر العواصم إذ يمر بعدد منها في أوروبا،
متأنيّاً في مروره بـ «فيينا» التي ارتبطت بأذهان كثير منا نحن العرب بـ “ليالي الأنس” وها هي تتلألأ اليوم بباقة من القصائد التي تحمل في جيناتها الشعرية خصوصية النبع حيث الماء وكل مفردات الطبيعة الخلابة من جبال وسهول ومراعٍ وثلوج… وحب !‏‏

‏عن دار نشر «كتّاب» في الإمارات صدر حديثاً كتاب «لؤلؤة الدانوب – نماذج من الشعر النمساوي» موقعاً بترجمة الشاعرة والمترجمة د. إشراقة مصطفى حامد المرأة السودانية المقيمة في النمسا كأبهى ما يمكن أن تكونه سفيرة للمرأة العربية.‏‏

في عقد اللؤلؤ النمساوي هذا تقدم الدكتورة «إشراقة» ثلاثة عشر شاعراً وشاعرةً: (كارل لوبميرسكي، آنتوني ماركو، بيتر بول فيبلينغر، كورت ستلافيك، أفتاب حسين، هيلموت نيدرلا، دوريز كيلوماشتاين، كارولينا ترافنيشك، فيلو أكونيا، ساريتا جينماني، هارلد كوليغر، صوفيا ريار، و دورتيا نورنبرغ)‏‏.

وأنا على يقين بأن اختيار القصائد من مجموع شعري ثرٍّ ليس مهمة سهلة على أي مترجم.‏‏

ما ترجمته الدكتورة حامد في هذه المختارات يقدّم للقارئ العربي، كما أرى، منمنماتٍ شعريةً نمساوية متميزة: شعراء يكتبون العالم على مروحة من ألوان الشعر تبدأ من التأمل، فالشاعر كائن مهموم بالكون ومظاهره، كائن لا يتوقف عن السؤال، ولا عن الحلم، ولا يهدأ لحظة في غزل كل ما حوله شالات فرح:‏‏

هل تسأل من هو الشاعر؟ سيأتي الجواب على لسان الشاعر كورت ستلافيك:‏‏

“الشاعرُ بطبيعتِه ليسَ سِوى أشجارِ اللَّوزِ والبتولَا،….. يلعبُ فقطْ معَ المفاهِيم،‏‏

شعرهُ معارضَة، مقاومَة اختِبار، احتجَاج، مراجعةٌ وتمرُّد‏‏

الشاعرُ صائغُ الكلِمات ضدَّ القسوةِ واللّامبالَاة ضدَّ الانتهازِيّةِ والانسيَاق‏‏

ومعَ ذلِك، فهلِ الريشةُ أقوَى حقاً منَ السَّيف ؟”.‏‏

هو ذا السؤال الأبدي والمواجهة المستمرة بين الكلمة والسيف، بين الحب والسلام وبين الحرب، بين الحلم والواقع، وشعراء هذه المختارات منحازون وبقوة لكل جميل وحالم حتى لو مرّ الحزن بجانب القلب: «علَّ المرء أن يكون سعيداً\ فتى يبحثُ في صدرك عن أغنية\ ويجدُ مزماراً مكسوراً..» كما يقول الشاعر كارل لوبميرسكي‏‏

في لؤلؤ هذه المختارات يقف الشاعر\ كل شاعر\ مع الأمل مهما كان الواقع. يقول الشاعر آنتوني ماركو: «سنلتقي في معركةٍ أخرى\ دون منتصرٍ وخاسرٍ\ حتى ننجز وصية تاريخنا»‏‏

ومع كل الحزن لا ينسى الشاعر أن يبشّر بميلاد فرح: «ولكن ومع كل هذه الآلام يزهر القليل من الورد» (كورت ستلافيك) وهكذا يتفتح الوجع على شبابيك القلب ويضوع العبير.‏‏

ثمة بين المُختارات قصائد لثلاثة شعراء نمساويين من أصول آسيوية وأفريقية: (أفتاب حسين من الباكستان، فيلو أكونيا من كينيا وساريتا جينماني من الهند) وسنعرف سر الاختلاف في البيئة الأصل، حيث ستندلع الشمس في القصائد:‏‏

“ومع ذلك ثمة ما يخفق في قلبي\ حتى قيامتي سيخفق\ لن أتجمد ولن أتلاشى\ فأنا جئت من بلادٍ دافئة\ دافئة” (أفتاب حسين)‏‏

وسنتلمس الحزن المتوارث على أوطان منهوبة، وأوطان قاسية وستكون المفردات مطرّزة بالتّوق للحرية:‏‏

“السجن سنوات بلا حرية\ حرية بلا سنوات\ شهور بلا حب\ عارٌ دون إصلاح\جاهل دون معرفة\…” (فيلو أكونيا)‏‏

والحديث عن تعلم لغة جديدة: «تعلّم لغةٍ جديدة يعني أن لا تتوقف أبداً» (أفتاب حسين)‏‏

إنه سر الاندماج.. سر الجسور التي يبنيها الشعر بين الناس وقدرته على ملامسة الجراح ومداواتها.. هو شبكة الأيدي المتعانقة التي تحاول إنقاذ الكون.‏‏

مرةً أخرى أقول: هذا الكتاب يشكّل جسر عبورٍ بين قرّاء اللغة العربية وشعراء اللغة الألمانية، جسر من الكلمات المشحونة بكثير من الجمال والحساسية العالية.. الشعر وإن اختلفت اللغة يبقى لغة عالمية تعمل على بناء وشائج الحب والسلام:‏‏

“عند قراءة نص شعري\ نزفر الحزن\ تفاؤلٌ جديد يمتلكنا حتى آخر زفرة\ يحدث هذا مع قراءته\ هذا فقط معه\ والتنفس بعمق الأفكار\ لهذا يكون النداء: تنفّسْ \ تنفّس” (كورت ستلافيك)‏‏

تنفسّوا مع الشعر.. مع الكلمة الطيبة.. التي قال عنها شاعر داغستان العظيم رسول حمزاتوف: «الكلمة أسرع من الحصان وأحدُّ من كل السيوف، فيها جمال الحكمة وحكمة الجمال».‏‏

شكراً للشاعرة والمترجمة إشراقة مصطفى حامد ما اختارت وما طرّزت به الشعر من جمال نمساوي آسر.‏‏

بعض النصوص حلّقت في مدارات الحزن والتأمل:‏‏

“البومُ ينعق في الريح/ وجدتُ في حضنك طفلاً ميتاً/ الآن لا أحتاج إلى الأساطير/ الطفل مات/ والمهد فارغ”‏‏

“وعلى الماء ينام الفلامنغو واقفاً/ ونحن نرتعشُ كلما تلامسنا” (بيتر باول فيبلينغر)‏‏

“أنتِ وأنا/ (إننا)/ العلةُ والشِّفَاء/ حَنينُنَا إلى كلِّ شيء/ إلّا إلى النِّهاية” (هيلموت نيدرلا)‏‏

ومن غناء عصفور وحيد سينهض هذا العالم مرةً أخرى لأن هذه إرادة.

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد