هادي المياح
توما هوك ،رواية الاستاذ صالح جبار خلفاوي هي مكملة لأعماله السابقة ،والتي كتبها بعد احداث الحرب والاحتلال عام ٢٠٠٣وقد حملت الكثير من المآسي والسلبيات التي الّمت بالعراق وجلبت الويلات والدمار له.. وهي رواية جديرة بالقراءة ليس لكونها كتبت بنمط حداثوي مختلف عن غيرها ولكن لما فيها من متعة ، ولغة مختلفة تجبرك على اعادة قراءتها مرة اخرى وربما مرات.. واجهت الرواية اعتراضات من قبل البعض في الوسط الادبي ونالت رضا الكثير.. ولسنا بصدد استعراض ما واجهته الرواية من أصداء وملابسات ،ولكنني احببت تقديم قراءة لها الغاية منها تسليط الضوء على الأداء الرائد الفريد لهكذا نوع من الروي او القص..والذي يدعى بالرواية البوليفونية. قرأت الرواية للمرة الثانية بصفتي متلقي بسيط قد لا امتلك أدوات النقد المطلوبة بشكل كامل الا اني قارئ نهم للأعمال الأدبية والقصصية بالذات وأحب سبر أغوار هذا الفن وأدوات نقده فوجدت الرواية قد حملت الكثير من الصور الفنية الرائعة التي رسمت بلغة مركبة قد تكون صعبة الفهم للوهلة الاولى : مفردات غزيرة ، جمل وعبارات متتاليات في منتهى الصياغة وشروط الترابط والانسجام،فقرات ومقاطع مسبوكة بانسجام تام .. كل هذا جعل النص الخطابي متماسكاً ليعطي في النهاية الصورة او مجموعة الصور التي تعبر عن وجهة نظر الشخصية بشكل جيد وواف.. حينذاك وجدت لا ضرورة لوضع هذه الرواية ضمن إطر نقدية معينه لانه من غير المنطقي ان تحصر ابداع روائي قدير وتحدد تخيلاته الذهنية بقاعدةغير مناسبة بحجة تطوير هذا النوع من الاعمال الروائية،الذي هو حديث عهد في الساحة الأدبية وان كانت ولادته قديمة.. وتوصلت الى ان هذا ربما هو احد أسباب ظهورتلك الاصوات المعارضة للرواية.. المؤلف في الرواية البوليفونية غير مسؤول عن الشخصيات،هي شخصيات مستقلة وحرة نسبياً وغيرية، وتعبر بالدرجة الأساس عن وجهة نظرها الفكرية والأيدولوجية ومن منظورها الخاص وتتقاطع جميعها في الرؤية فيما بينها ومع رؤيةالمؤلف او الكاتب ..وكل ما تتفوه به الشخصيات من كلام هو من مسؤوليتها فقط.. اما المؤلف فيكون مسؤولا عن الصورة النهائية التي ترتبط بالهدف الأساسي للرواية والناتجة من خلاصة الرؤى للشخصيات ومنظورها للحدث الواحد في الرواية. الرواية من النوع البوليفويني اي متعددة الاصوات والشخصيات متحررة تماما من سطوة المؤلف وتروى من وجهات نظر متعددة بتعدد الشخصيات والمنظورات الأيدولوجية م وبرؤية داخلية ، وخارجية، ومن الخلف ..وبسرد متعدد الضمائر ضمير المتكلم ،ضمير الغائب، ضمير المخاطب ..استعان الكاتب بجميع الضمائر في السرد عدا ضمير المخاطب انت ..والكاتب حر في أختيار صيغ وأنماط السرد المناسبة والتي بها يتم استحضار الشخصيات وعرض الاحداث. اعتمد الراوي على استخدام ضمير المتكلم (انا) في جميع فصول الرواية عدا صوتي الأب والام فقد كان السرد بضمير الغائب (هو) دون ان يفرض انحيازه لهمااو تفضيل لرأيهما على باق الاّراء. ١.العنوان لا يعني عنوان الرواية ( توما هوك)صاروخاً بالمعنى الاصطلاحي للكلمة كالذي يستخدم في الحروب ويدمر البنى التحتية والمعنوية والأشخاص ،بل صيّره الكاتب صاروخاً من نوع جديد، كوسيلة لنشر الخراب والانحلال الاخلاقي في المجتمع، وتخريب أواصره الثقافية والاجتماعية ولحمته الوطنية ، توما هوك ،صاروخا موجهاً لكل طوائف المجتمع العراقي ليثير فيها الفرقة والدمار ويزيد من تشتتها وانتكاساتها..وهذا ما يفسر عدم لجوء الكاتب الى إبراز ولو مشهداً واحداً فيه قتلى او خسائر في الأشخاص.. ٢.الحبكة : تتكون حبكة الرواية من عدة احداث ولكل حدث شخصية محورية تبدو قلقة وغير مستقرة وتعاني من داخل مضطرب وقد تكون مهوسة في اغلب الاحيان ..توزعت الشخصيات على فصول الرواية حسب خطة الكاتب ونوع الخطاب السردي البوليفوني ويكون السرد بصيغة راو- شخصية، احداث الرواية متعددة لكل شخصية حدث مستقل لان اُسلوب القص اعتمد أساسا على الحدث، ومجموع الاحداث والصور والأفكار الموجودة في اذهان الشخصيات و التي تقود بالنهاية الى الفكرة الرئيسة للرواية وليس عن طريق سلوك الشخصيات الظاهري .. فلكل شخصية موقف فكري وأيديولوجي مرتبط بالحدث ويستمد منه ويأتي من الطريقة التي تقيم بها الشخصية العالم المحيط بها . ٣.الشخصيات: في رواية من النوع البوليفوني مثل توما هوك ،تجد عدة شخصيات متصارعة فيما بينها و تتمتع كل شخصية باستقلالية نسبية وحرية الرأي ووجهة النظر والمنظور رغم تقاطعها مع باق الشخصيات ومع فكرة وأيدولوجية الكاتب. ان سلوك الشخصية الظاهر من خلال سرد العالم الداخلي لها لا يعبر بالضرورة عن الصورة الفكرية التي يراد ايصالها في النهاية لتشكل الغاية الرئيسية من الحدث والمنظور. لذا نجد ان بعض الشخصيات ظهرت مهوسة جنسياً وشاذة بدرجة غير مألوفة ،ومفاجئه للقارئ.. كشخصية الام و آمال وصونكول ..ربما وجود شخصيات بهذا النوع من الانحرافات والشذوذ الجنسي لا يستهوي القرّاء على اعتبار ان حدود انتشار هذا الانحراف في المجتمع ضيقاً ومحدوداً وطرحه بنافذة واسعة قد يلحق الضرر في سمعة الغالبية الملتزمة لأفراده. ولكن تبقى هذه مجرد فكرة ايديولوجية خاصة بالشخصية ولا علاقة للسارد بها طالما انه لم يتبناها او يدعمها او يفضلها على باقي الاطروحات الفكرية للشخصيات الاخرى. أوكل الكاتب شخصية الابن مهمة السارد او الراو- الشخصية ..على الاقل في عرض موجز لمطلع الرواية جاء منسجماً مع معاناة الشخصية التى هي بمثابة المحور المهم في الرواية.. من خلال حركة هذه الشخصية وتنقلها يمكن التوصل الى مستوى الواقع المكاني ..أين يقف الراو- الشخصية الان؟ (هل انت من بغداد؟) (أما زال هارون الرشيد هناك؟) (أظنك شارلمان) (في المقهى الإسباني ،اشاهد العالم يمر بقرب شوارع تصطف على أشجار وقصور ملكية،مسارح،ملاهي تدمن السهر حتى بزوغ الفجر……..) حلم اللقاء بشارلمان ،هارون الرشيد، السندباد،انكيدوا، كلكامش .الف ليلة وليلة وهذه الاقتباسات للبطل تدلنا على مكانه بوضوح..وان الراوي الان في اسبانيا ينوء بذكرياته وأحلامه وتخيلاته التي ولدت معه في بغداد حتى بلوغه العقد الثالث من العمر. اما باقي الشخصيات فلا تقل أهمية بل وظّفها الكاتب توظيفا رائعاً في تطوير العقدة والحدث المناسب لكل شخصية.. فالأم احتلت دور البطولة وبنفس الوقت أُستخدمت كنافذة على شخصية مهمة اخرى وهي صديقتها آمال الطالبة معها في المرحلة الثانوية والتي اتخذ بها السرد طابع التوغل في المفردة المغلّفة بالجنس والشهوة..واستخدم المؤلف السارد ضمير الغائب (هي).. (ريح الليل ترشف روائح البارود،انه لا يرضى عنهايلعب ببندقيته،ثم يسخر من روحه،يهرب من اللذة المدفونه-عند منتصف الليل نسمع أزيز (توما هوك) يعبر من فوق رؤوسنا،تتصاعد تمتمة نائمة لأحلام تكتشف اسرار القلق) هنا نقطة البداية لظهور العقد والمخاطر للبطل الطفل بظهور أزيز توما هوك مقرونا باللقاء السري الذي يحدث في الطابق العلوي والذي يفضحه رفيف اجنحة طير يفز من عشه ..ونزول أمه مندفعة من فتحة السلم مرتدية ملابس سوداء،تكشف زنديها الممتلئتين، وفتحة الصدر الواسعة تظهر عري (………) (تضرعت داخلي لو تنقشع العاصفة) (بقيت ألهو باصطكاك أسناني ) كلها تعابير عن الحالة النفسية للطفل بسبب الصدمة التي تواجهه في هذه المرحلة الخطيرة والقلقة من حياته..القلق المتأتي من اجواء الحرب والآخر بسبب السلوكيات المنحرفة والشاذة التي تقع على مرأى منه..!). وجود شخصيات من القومية الكردية تعيش جنبا الى جنب مع الشخصيات العربية .. ووجود الجارة البسيطة ( أم عبدالزهرة) كإشارة للمرأة الشيعية التي تسكن قرب بيته في غرب العراق..إشارة الى وجود تعايش اجتماعي قديم بين كل شرائح المجتمع العراقي ..ولكن عوامل الحرب بدأت بتخريب وتفكيك هذه الأواصر حتى اصبحت المنطقة الغربية(بيت الأب في غرب العراق آيلاً للسقوط) وربما محاولة هروب سردار من العراق قد تكون إشارة من قبل الكاتب الى انفصال اقليم كردستان .. ٤.اللغة المستخدمة والاسلوب كما ان التعددية موجودة في الشخصيات والاصوات والمنظورات فإن اللغة كانت متعددة واعتمد في استخدامها على مستوى صورة اللغة بالصياغة الحوارية او الأسلوبية ..ضمّنها بالمحاكاة الساخرة والحوار المقتضب والتناص والتنضيد والتهجين والاسلبة.. ولجأ الى استخدام المفردات ذات المعاني المزدوجة وذات المظهر الدلالي والتعبيري. ( شيطانه حياسز) جملة حوارية بسيطة باللهجة المحلية العراقية، المتكلم هي شخصية مهنتها ربة بيت وهذا نوع من التنضيد اللغوي حسب المهنة..وهنا أودّ ان أشير الى هذا النوع من التنضيد اللغوي وهو التنضيد المهني،يبدو استخدامه ضئيل قياساً بتعدد وظائف الشخصيات: كمهنة صاحب محل الأخشاب وأمينة الصندوق وربة البيت ،والتاجر …الخ . أما التناص في الرواية فيشمل كل الاقتباسات التي دونها السارد او الشخصية وكذلك استحضار كلام الغير سواء كان نقلاً او حواراً: ( لا فتى الا علي ولا سيف الا ذو الفقار) ولكن تبقى لغة الرواية زاهية بمفرداتها الجميلة والمتنوعة وذات المعاني العميقة مما جعل الرواية على مختلف أحداثها ، نسيجا مترابطاً ومنسجماً ،اكسبها حلاوة ومتعة وجاذبية.. ٥.تعدد المنظورات يظهر تعدد المنظورات منذ البداية حين تنقل الكاتب من وجهة نظر الى اخرى منطلقاً في رؤياه من الخلف الى الرؤيا الداخلية ثم الى الرؤيا من الخارج وباستخدامه الضمائر المناسبة لهذا الغرض..او انتقاله من سرد إلانا الى سرد الغائب(هي) كما اشرت اليه في الفصلين الاول والثاني من الرواية..وإضافة الى ذلك التناوب في السرد بعدد السراد والرواة..والسارد بصفة الشاهد او المساعد.. لا يمكن الإلمام بكل الشخصيات والاحداث والصور الكثيرة المتشعبة في الرواية وذلك لتشعبها أولاً والتداخل في الفضاءات الزمكانية ثانياً ..وقد يفيد هذا التنوع في تركيبة الشخصيات من حيث المذهبية والطائفية والقومية في معرفة الهدف الكامن في داخل صفحات الرواية والذي يبدو كما يبدو هو توحيد هذا التشتت الواسع بين طوائف المجتمع العراقي والذي سببته الحروب الدامية التي مر بها البلد وآخرها الاحتلال الامريكي. ……….