قصة للصغار: أطفال فوق نور الشمس

محمد مكاوي

ملاحظة: يمكن استثمار هذه القصة لغاية تربوية

كان يا ما كان حتى كان في قديم الزمان، أيام الجودة والنجاح والتميز والحق والإحسان، كانت في إحدى القرى تسكن  طفلة مقعدة  صغيرة اسمها توف إتران*، عمرها سنوات ثمان، تعيش وحيدة يتيمة الأبوين.

تقتات توف إتران مما يجود به سكان القرية أو الجيران، رفضوا جميعا أن تتسول أو تشتغل كخادمة في البيوت، فتعهدوها بالسكن والعطف والحب الخالص والتمدرس والحنان.

اعتادت توف إتران حين تكون في طريقها للمدرسة أن تمر بكرسيها الكهربائي المتحرك على بيت والديها المتهدم فتسقي بقنينة مائها العذب شجرة الجوز، وترمي بعض حبات الشعير للعصافير، وتتمسح بيديها على ما تبقى من الجدران؛ وفي كثير من الأحيان تدخل زاحفة  لتجلس  في المكان الذي كانت تتقاسمه مع المرحومة أمها المطربة الشعبية الشهيرة الشيخة باسو.

الكل في هذه القبيلة النائية الجميلة يعرفها باسم باسو الشلحة التي كانت تطرب لصوتها الأمازيغي جبال الأطلس المتوسط الشامخة؛ قدر لها أن تموت وزوجها في نفس الزمان والمكان؛ في ذلك اليوم المشؤوم الذي فاض فيه أسيف أمقران.

أطل عيد عاشوراء، فسمعت توف إتران في كل أرجاء القرية طلقات لعب المسدسات الكهربائية ودقات الدفوف والطبول وزغاريد النساء وهن ترددن في حبور

عيشوري عيشوري       حليت عليك شعوري

كديدة كديدة         وملوية على العواد

اللالة عيشور جاء       يصلي وداه الواد

من سيشتري لك الهدية يا توف إتران، وأنت ما لك أب، ولا أم، ولا إخوان ؟

صمتت المسكينة توف إتران وكفت عن الكلام. أعادت صديقتها السؤال مرة ثانية وثالثة… وفجأة انسلت توف إتران إلى مكان بعيد لتجلس وحيدة تتأمل من الشرفة نور القمر على ما تبقى من  بيتهم القديم، وتترك نسيما عليلا يعبث بشعرها الجميل.

عندما نام الجميع وصمتت القرية إلا من نباح كلاب هنا أوهناك.

زحفت توف إتران نحو بيتهم القديم باكية مستنجدة تدوس براحتيها وركبتيها  الحصى والأشواك وهي تردد في صمت رهيب: أينك يا أماه ؟ أينك ؟ لم رحلت يا أماه ؟

وفجأة رأت توف إتران هالة بيضاء من النور تغطي باب البيت القديم زحفت ورفعت رأسها فرأت عصافير جميلة جدا ترحب بقدومها وشمت رائحة طبخ شهي تنبعث من المطبخ القديم..

زحفت أكثر للداخل فسمعت صوتا عذبا يصدر من بعيد، خفق قلب المسكينة وقالت: اينك يا ماما ؟

فرد الصوت من حيث لا تدري: صغيرتي توف إتران أنا هنا دائما معك في كل مكان. كلي واشربي وتعالي لأضمك يا حلوتي وأتابع لك حكاية الذبابة وقمر الزمان.

فرحت كثيرا توف إتران فأكلت طعاما لذيذا وأسرعت للنوم في السرير لتسمع بقية حكاية الذبابة وقمر الزمان، وقبل أن تستسلم للنوم قالت لأمها: وأين هديتي يا ماما في عاشوراء «أنظري ها هي ذي يا حلوتي»، فأعطت الأم لتوف إتران علبة هدية جميلة.

حين أفاقت توف إتران وجدت قرب سريرها علبة ملفوفة بأوراق لماعة وخيوط ذهبية وبطاقة صغيرة كتب عليها بريشة فنان: «عيد سعيد يا حلوتي».

حملت توف إتران في سعادة العلبة وهتفت في إعجاب وحبور وفرح «هدية ماما ،هدية ماما» ففتحت بسرعة العلبة ووجدت بها كمانا صغيرا منقوشا بمختلف الأشكال والألوان.

خبأت توف إتران الكمان وسارت بكرسيها تسرع وتسرع فتراءت لها طريقا في السماء صعدته إلى أن سمعت الصوت العذب فقالت شكرا شكرا يا ماما على هديتك الجميلة.

قبلت توف إتران الماما وسارت بكمانها العجيب إلى الغابة الوارفة الأشجار.

كان الوقت يقترب من مغيب الشمس أمسكت توف إتران الكمان، تماما كما يفعل الأمازيغي الأصيل الفنان، فبدأت تعزف وتعزف فرأت أن طيورا كثيرة تقبل من كل الجهات وتردد معها الألحان وأن أغصان الأشجار تتمايل لرقته  وفجأة بزغ في الوادي قوس قزح ورأت توف إتران أمها تحييها من بعيد وتردد عيد سعيد ياحلوتي

اعتادت توف إتران أن تذهب  مساء كل يوم بكرسيها المتحرك صوب الغابة كي تعزف وتغني مع مختلف الطيور أعذب الألحان فتخبيء الكمان وتعود عند حلول الظلام لبيت الجيران.

في أحد الأعوام هجمت طيور كثيرة على حقول القرية الغناء فالتهمت فواكه الأشجار كالموز والبرتقال والتفاح، والتقطت جميع بدور الخضر ولم تترك أية سنبلة في الحقل فتحولت البلاد إلى قرية قاحلة وعم الحزن سكانها ولم يجدوا سبيلا للقضاء عليها.

بدأ سكان القرية يرتحلون الواحد تلو الآخر وخاصة عندما لاحظوا أن هذه الطيور الخبيثة تبتلع صغار الدجاج وتقتلع دون رحمة عيون الماعز والأبقار والخرفان.

خرج حاكم المدينة يطلب العون من الجميع ويرجوهم ألا يتركوا القرية وأن يفكروا في القضاء على هذه الطيور ويبعدوها من قريتهم الغناء.

خرج البراحون للأسواق القروية وللمساجد ولكل التجمعات يرددون: لا اله إلا الله، ما تسمعوا غير خبار الخير أعباد الله لي قدر ينقد بلادنا من هذه الطيور الجائحة يغنيه الحاكم إلى غناه الله* 

ذاع الخبر كالنار في الهشيم فجاء الأطباء والبياطرة والدجالون لكن ما استطاع أي منهم القضاء على هذه الطيور التي غزت القرية وحولتها إلى خراب.

وبينما كان الحاكم يتأمل ما آلت إليه القرية ويتفقد السكان المتبقين اقتربت منه توف إتران بكرسيها المتحرك فأمسكت بتلابيب جلبابه الفضي؛ وفي الحال جرى نحوها أحد الحراس فأبعدها قائلا: ماذا تريدين ألا يكفيك ما نحن فيه ؟

قالت توف إتران: أريد أن أتكلم مع الحاكم.

لاحظ ابن الحاكم شدة الحارس فقال: دعوا الفتاة تتحدث مع الحاكم.

اقتربت من الحاكم فانحنى نحوها وهمست له في أذنه وقالت: سيدي الحاكم أنا سأنقد البلاد والعباد من هذه الطيور الشداد.

ابتسم الحاكم وتساءل: وكيف ستفعلين يا صغيرتي ولم يستطع ذلك أمهر الأطباء والبياطرة والصيادين ؟

مدت توف أتران الحاكم بعلبة الكمان الصغيرة فقالت: بهذا يا سيدي الحاكم.

تعجب الحاكم وأمسك الكمان فنادى على أمهر عازفي القرية حيث لاحظوا جميعا أن هذا الكمان غريب الأطوار وعندما حاولوا جميعا العزف لم تصدر منه ألحان.. فقال أمهر العازفين: دعنا يا سيدي الحاكم من كلام الصبيان يكفينا ما نحن فيه من آلام وأحزان.

ألحت  توف إتران وهي تجر كرسيها المتحرك؛ فاشترط عليها الحاكم أمرين: أن تخرج الطيور من القرية أو يكسر الكمان.

قبلت توف إتران التحدي، فأمر الحاكم ببناء الخيام واستدعاء البياطرة والأطباء الذين حالوا طرد الطيور وطلبوا جميعا من توف إتران أن تحضر قبل طلوع الشمس.

كان الجو يومها دافئا تتخلله بين الفينة والأخرى هبات نسيم عليل. أفاقت توف إتران ولبست أجمل اللباس وحملت علبة الكمان وسارت بكرسيها المتحرك تدوس الحصى والأشواك، إلى أن وصلت  للمكان الذي اختاره الحاكم.

كان الجميع في انتظار الطفلة ذات الكمان الغريب…

توسطت الحضور من الناس وما هي إلا لحظة حتى حضر الحاكم وخلفه حاشيته.

أمر الحاكم توف إتران أن تبدأ العزف على الكمان.

قال أحد الحاضرين مستهزئا، ماذا ستفعل هذه البنت، إنها يتيمة لا حول لها ولا قوة، هل تصدقون أنها ستنقد قريتنا من هذا المصاب ؟

حين أمسكت توف إتران بكمانها العجيب بدأ يصدر أعذب الألحان.

عزفت وعزفت وعزفت فوقف الجميع بمن فيهم الحاكم لهذا اللحن الحزين.

اغرورقت عيون الحاضرين وتلبدت السماء فتساقطت حبيبات المطر، وفجأة بدأت أسراب من الطيور الجائحة تردد مع توف إتران ما تصدره من ألحان،

تكاثرت الطيور فتوسطت الناس ورأوها تردد الأغاني كأنها إنسان.

زحفت توف اتران على الأرض ووضعت الكمان على صدرها واستمر يصدر الألحان.

أمسك الحاكم الكرسي وجلست توف إتران وساروا يخرجون الطيور من القرية، فتبعتهم تغرد وتغرد أعذب الأصوات

حين وصل الجميع للغابة كفت توف إتران عن العزف فمكثت الطيور هناك وأقاموا سياجا عليها ففرح أهل القرية بأعمال توف إتران فأصلحوا جميعا الطرق والممرات وأدخلوا تعديلات على مدخل المدرسة والمسجد والحديقة  ليسهموا في وصول توف إتران لكل مكان.

* توف إتران: اسم أمازيغي يعني أفضل من النجوم

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد