بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا ينسى الفلسطينيون أبداً حلم اسحق رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، وجنرالها الحربي الأشهر، ووزير دفاعها الأقدم، الذي كان يتمنى أن يصحو يوماً فيجد أن غزة قد ابتلعها البحر، فلا يعود لها على الأرض وجود، ولا يبقى من سكانها أحد، ولا يترك البحر شيئاً من آثارها على اليابسة.
ومن فرط خوفه وفزعه منها لم يخفِ أمنيته، ولم يبقها حبيسةً في صدره لئلا يخاف جنوده أكثر، وهو بالنسبة لهم القائد والمثال، والزعيم والجنرال، الذي خاض الحروب، واقتحم المدن، ودخل القدس واحتلها، إلا أنه كان ضعيفاً أمام غزة، صغيراً في حضرتها، مهزوزاً في وجودها، مرتبكاً عند نهوضها، عاجزاً عن مواجهتها والتصدي لها، وغير قادرٍ على تركيع رجالها وإسكات نسائها، وترهيب أطفالها، والقضاء على أحلامها.
فقد أضنته غزة وأوجعته، وأربكته وأحزنته، وأتعبت جيشه وأرهقت قيادته، وفيها بكى جنوده، وهرب ضباطه، واكتوى جيشه بنار فدائيي القطاع وأبطال المقاومة الشعبية، الذين لاحقوا جنود جيشه المذعور في شوارعه وأزقة مخيماته، فكان القطاع كله لهم محرراً في الليل، فلا يقوي عسكري إسرائيلي على أن يتجول في أرجائه إلا نهاراً تحت ضوء الشمس.
ذلك أن الموت كان يقفز لهم من جوف الأرض، وينزل عليهم من السماء، ويحيط بهم من كل مكان، فكانت خسارة جيشه في القطاع كبيرة، تزيد ولا تنقص، وتتواصل ولا تتوقف، ما جعله يحلم بأن يستيقظ يوماً فيجد أن قطاع غزة ابتلعه البحر، فيتلاشى ويندثر، ويصبح أثراً بعد عين، لا حياة فيه ولا سكاناً، ولا مقاومة فيه ولا سلاحاً، ليرتاح وشعبه، ويستكين جيشه ويطمئن، فقد أرهقه الموت، وأتعبه الحذر، وسكن في قلب جنوده الخوف، وتمكن منهم فما أبقى للحياة في حلوقهم طعماً.
اليوم ينام اسحق رابين في قبره مطمئناً، وتسكن روحه وتهدأ نفسه، وتبتل عروقه وتترطب عظامه، وقد ينهض من رقاده، وينشق عنه قبره، ويستفيق من موته فرحاً، فقد تحقق حلمه، واستجاب القدر لدعوته، وسخر الله له من بني جلدتنا، ممن كانوا له يوماً أعداءً أشداء، وأنداداً أقوياء، وحراساً للعروبة والإسلام أمناء، فقاموا بما عجز عن القيام به، ونفذوا خطته القديمة، وحلمه الخبيث، وأمانيه القذرة، فأجروا البحر تحت أرض غزة، لتلوث مياهه الجوفية، وتملح مخزونه الفقير منها، وتضعف تربته، لتنهار طبقاتها الرملية الرخوة، وتجعل الحياة فيه مستحيلة أو صعبة، وبذا تكون غزة جزءاً من البحر وقطعة منه، فلا توجع رأس الإسرائيليين ولا تقض مضاجعهم، ولا يهمهم أمرها ولا يعنيهم شأنها، فقد ابتلعها البحر واحتواها في جوفه، وقد تصبح جزءاً منه.
هل تبدل الحال وتغير الزمان، وتراجعت الأولويات وتبدلت الهموم، أم اختلطت الأمور وامتزجت الألوان، فما عدنا نميز أو نفرق بينها، رغم أننا ما زلنا نذكر أقواماً من أمتنا كانوا يدعون إلى إلقاء إسرائيل في البحر، ويسعون لشطبها والتخلص منها، وكانوا يجاهرون بأمنيتهم ولا يخافون من دعوتهم، وقد صدقهم العرب وآمن بشعارهم المسلمون، وأعلنوا ولاءهم لهم وتأييدهم لعملهم، فما بال هؤلاء ينكصون على أعقابهم، ويبتلعون كلامهم، ويتراجعون عن شعاراتهم، ويعلنون عزمهم إلقاء الضحية في البحر، والتخلص منها إلى الأبد، بحجة أنها تهدد أمنهم، وتعرض سلامتهم إلى الخطر.
ويلٌ لهذه الأمة التي ينوب فيها أبناؤها عن أعدائها، وينفذون برغبتهم وإرادتهم رغباته وأمنياته، ويقبلون أن يكونوا جنوداً في جيشه، وترساً في آلته، وأداةً في يده، ينفذون ما يريد، ويتطوعون لخدمته وتنفيذ استراتيجيته، في الوقت الذي تتطلع فيه أمتهم لأن يكونوا لهم سنداً وعوناً، ومعيناً ونصيراً، يستقوون بهم، ويعتمدون عليهم، ويهددون باسمهم، ويتوعدون اعتماداً عليهم، وثقة بهم، واطمئناناً إلى صدق وعدهم، وإخلاص نيتهم، وقوة عزمهم، وثبات موقفهم.
نم يا رابين قرير العين، مطمئن النفس، هادئ القلب، واطمئن على شعبك من بعدك، الذين تركتهم يعيشون في خوفٍ وقلقٍ، فقد بدأت أحلامك تتحقق، ووعودك تنفذ، وها هو الشعب العنيد في غزة، يموت بعض أبنائه غرقاً في البحر، بحثاً عن هجرةٍ ولجوء، وسعياً لإيجاد هويةٍ وكرامة، بينما يموت الآخرون حصاراً وحرماناً، وجوعاً وعطشاً، وألماً وكمداً، وحزناً وأسى.
يا رابين … لن يعود في غزة إن غرقت عماد عقل، الذي دوخك وأرعبك، والذي كانت صورته تعلق على جدران مكتبك، وتسير معك حيث تكون، ولن ينهض في وجه شعبك يحيى عياش مارداً يطاردهم، وشبحاً يرعبهم، وهاجساً يراودهم، ولن يخرج من عزة استشهاديٌ يفجر نفسه في جموع جنودك، وحشد جيشك، ولن يعود حسن سلامة من سجنه حيث أهله ورفاقه، وأسرته وإخوانه، فهل يتحقق حلمك، ويحصد شعبك من بعدك أمانيك القديمة.
خاب فأل كل من رام بغزة شراً، أو حاول المساس بها ضراً، فإنها بإذن الله كما أنها أقدم مدينةً في التاريخ، فإنها ستبقى حتى آخر التاريخ ونهاية الزمان، ولن تغرق أو تموت، ولن تندثر أو تتلاشى، بل سينهض رجالها الصيد الأباة، الكماة الأبطال، وسيكون لهم من أمتهم جندٌ وأنصار، يقفون معهم، ويدعمون صمودهم، ويؤيدون نضالهم، وسيضحكون وغيرهم ملء أشداقهم، من رابين الراقد في قبره، ومن شارون الراحل بعد غيبوبة، ومن كل من حاول كسر شوكة غزة، أو لي عنقها، أو كسر ذراعها.
فقد رحل الذين دعو إلى تهشيم عظامها، وتكسير رؤوس شبابها، وضربهم على أطرافهم، وتقطيع أوصالهم، ولم يعد لهؤلاء ذكرٌ ولا وجود، فلا رابين بقى ولا شارون، ولا وايزمان ولا أرنس، ولا إيتان ولا دايان، ولا باراك ولا بيرتس، ولن يبق من بعدهم يعلون ولا موفاز، ولا أشكنازي ولا بيني غيتس، وسيلعن غادي أيزنكوت نفسه، وسينعى حظه، وسيصيبه ما أصاب من قبله، وسيترك ألقابه ويرحل، وستبقى غزة جزءاً من فلسطين ثائرةً، وبقعةً من الوطن عصيةً، ولن تغرق ولن تعطش، ولن تجوع ولن تعرى.