محمد أديب السلاوي
السؤال المحير الذي يؤرق العديد من الأدباء و المفكرين والكتاب والمبدعين في الزمن الراهن، زمن الاتصالات الالكترونية المبهرة، هو : ماهي الكتابة…؟ ولماذا نكتب…؟ وهل هي فعل أم افتعال أم تفاعل…؟
ولأن الكتابة عملية جدلية، نجدها عند العديد من محترفي الكتابة، منفتحة على الواقع، تنطلق منه، تلاحقه لتلحقه بالآداب، بالتاريخ، بالفلسفة، بالرمز الصوفي، تنفجر من خلاله، لتكتوي بناره، تتحول هذه الكتابة مرة إلى حلم…ومرات تتحول إلى إطلالة على الماضي/ على الآتي، من داخل الواقع ومن خارجه.
*****
مجلة ليبيراسيون الفرنسية، عندما أرادت قبل سنوات أن تلقي الضوء على فعل الكتابة في زمن الألفية الثالثة، التقت بأربعمائة كاتب وكاتبة، من مختلف الجنسيات واللغات والانتماءات الفكرية والاديولوجية، لتسألهم : لماذا الكتابة…؟
كانت الإجابات ذات مضمون واحد تقريبا : نكتب لنؤثر في الناس/ لنعمل على انخراطهم في عملية التغيير الاجتماعي و الحضاري/ لنخلق رؤية لحياة أفضل/ لنعثر على تعويض للخسارات التي يتعرض لها الإنسان في مناطق وجهات عديدة من هذا العالم/ لنسترجع ما انهار من القيم والمثل و التقاليد.
بالتأكيد أن هذه الإجابات لا رابط بينها سوى الإطار المكاني و الزماني للكاتب، ولكنها تتوحد- بشكل أو بآخر- في الدوافع العميقة لفعل الكتابة، وهي دوافع فعل وانفعال وتفاعل.
الكتابة من منظور هذه الإجابات، هي خروج حتمي من درجة الصفر، خروج ايجابي من حالة السكونية، استجابة لمنبه لا يملكه إلا الكاتب نفسه، وأفعالها من خلال هذا المنظور، تتوزع بين التأثير والمساهمة والتغيير والخلق والتعويض، ومن ثمة تجد نفسها- كأفعال- ترتبط بالعملية التاريخية الشاملة، تسعى إلى فهم الزمن في حركيته وتحولاته، تلاحق الواقع، تنطلق منه وتعود إليه، ترغب في تحقيق التوازن بين الانفعال والفعل، بين الحلم والواقع، بين الأنا والآخر.
*****
لنتوقف قليلا بهذه المناسبة، عند المفهوم المعاصر لفعل الكتابة.
في عصر الصراعات و الحروب، عصر التخاذل والتصادم، يتحول مفهوم الكتابة، إلى حالة لا مهادنة ولا تصالح مع الواقع المعيشي، فالأجناس الكتابية في ظل هذا المفهوم تفرز الرؤى الفلسفية لعالم اليوم وعالم الغد، تبرز الخطابات الممكنة والمستحيلة، تعيد تركيب العلائق والوقائع والحالات.
هل يعني ذلك أن فعل الكتابة في عالمنا المعاصر، هو خروج فعلي من حالة الصفر والسكونية. أم يعني أنه حالة جدل مستمرة بين إيقاع الحياة والتعبير عنها…؟
في كتابتنا العربية المعاصرة، يلحظ الناقد المتتبع أن “بعضها” يسعى في ظل هذا المفهوم، الإفلات من آثار خيوط اليومي والعادي بهدف إعادة تركيب العلائق وفق أنساق جديدة، ووفق أنسجة لغوية معينة.
ويلاحظ أيضا، أن بعض الكتابات تسعى الاختراق والتنبؤ، وتهجس إلى مكونات العقل التي تحوم حول الفلسفة وتهاب التوحد معها…أو ضدها.
اذن كيف يمكننا الحديث عن المشروع الإبداعي، الذي يسعى إلى التجاوز بجرأة محسوبة لما هو قائم/ كائن…؟
لنتوقف قليلا مرة أخرى عند مفاهيم وقيم الكتابة العربية التي حملناها كل طموحاتنا. إن الملاحظات التي خرجنا بها عن ” بعض” الكتابات العربية المعاصرة، لا تشكل في الحقيقة إلا النموذج الناذر الذي يمثل في بعض جوانبه طلائعية الكتابة / شكل الكتابة ومضمونها، فالقليل من الإبداعات من استطاعت الخروج من شرنقة السلبية، والنادر منها من استطاع الطموح إلى تطوير عملية الكتابة.
هذه فيما نعتقد حقيقة لا تقبل الجدل.
الحقيقة الأخرى، أن بعض الكتابات العربية، تسعى من وجهة ثانية إلى الاختراق والتنبؤ، يسكنها الهوس التجريبي والحداثي، بدء من المستوى اللغوي وانتهاء بالمستوى اللغوي، وهذا يعني أنها في الإجراء الإبداعي تعجز عن الوفاء لالتزامات الكتابة وطموحاتها لأسباب معرفية وثقافية، ربما تتمثل في التأثير المطلق بالتجارب السكونية الجاهزة وبالرؤى الضبابية الراكدة.
إن الكثير من هذه الكتابات في الزمن الراهن، تحاول جهد الإمكان إبراز عضلات المتن اللغوي عضلات التجريد اللغوي، وتحاول أن تكون حاضرة في الصورة، غائبة عن الواقع وعن التاريخ.
في واقع الأمر، ليس من السهل الحديث عن الكتابة الإبداعية السائدة في حياتنا الثقافية، فالأمر يتعلق بظاهرة متراكمة على جدارية هذه الثقافة، وهي ظاهرة تتنافى في الكثير من جوانبها مع مفهوم الكتابة الإبداعية.
إن النظرة التي يكرسها عالم اليوم لهذه الكتابة، هي على طول وعرض الفكر البشري لحظة وعي/ ما قبل الوعي وما بعده/ هي الوعي الغائب الحاضر/ هي الفعل الصادر عن الإحساس والتجربة/ هي المناهضة الصريحة لكل موقف تبريري…
إذن كيف يحق لنا أن نسال : لماذا نكتب…؟
نترك الجواب للذين يضعون الكتابة في موقعها الصحيح من القراءة…
نترك الجواب للذين يبحثون في معارض الكتاب، وفي ثنايا المكتبات الالكترونية، عن الكلمات النظيفة، التي لم تتلوث بعد بغبار الفساد، المتفجر من كل الزوايا في العالم الراهن.
أفلا تنظرون…؟