** يونس إمغران إعلامي مغربي
*** من الأمور التي ابتليت بها، ولا أجد طاقة على صرفها، البحث عن الكتب المستعملة النادرة.. إذ كلما صادفت محلا لبيع الكتب المستعملة في طريقي، أو حدثني أحد أصدقائي عنه، إلا وأسرعت الخطى لزيارته، والتوغل في فضائه، وتقليب رفوفه، بحثا عن كتاب مفقود، أو نافذ من سوق الكتب. وذات يوم من سنة 1994 وأنا خارج من عملي ب “المجلة المغربية”، لصاحبها الأستاذ حسن الأربعي، الكائن مقرها بأكدال قرب قاعة ابن ياسين (بالرباط)، لمحت محلا لبيع الكتب قابعا في زاوية ضيقة من إحدى الأزقة المتفرعة على شارع عقبة بن نافع، فأسرعت لولوجه بشعور طافق من الفرح كاد أن يصيبني بالإغماء.. ثم بدأت أقرأ عناوين الكتب والمجلات وأتصفح وريقاتها بنشوة وسعادة، إلى أن رفعت كتابا مستطيل الحجم والإطار، يميل لونه إلى صفرة باهتة، فإذا هو ديوان شعري لرائد الرومانسية في القرن العشرين الشاعر العربي السوري الكبير نزار قباني “قصائد متوحشة”.. فسألت عن سعره الذي لم يكن يتجاوز 10 دراهم.. أديت ثمنه، وانصرفت مسرعا مخافة أن يجردني منه صاحب المحل، بحجة أن ثمنه يفوق ذلك بكثير.. أو أن الكتاب ليس للبيع.. أو أن الكتاب محجوز لأحد زبنائه المواظبين على زيارته.
عدت إلى منزلي الكائن بيعقوب المنصور بشعور الذي عاد من حرب ضروس منتصرا.. لم أدلف إلى المطبخ لإعداد طعام الغذاء، رغم أن الجوع، كان قبل شرائي للديوان الشعري، قد لف حول عنقي حبلا من أمعائي الخاوية، وهددني بألم المعدة، وقرقرات البطن.. لم أعبأ بكل ذلك، وجلست على كرسي خشبي عديم الراحة، وبدأت أتصفح قصائده في لهفة وشوق ولذة.. ويا للهول .. وجدت جميع القصائد التي كان المطرب العراقي كاظم الساهر يصدح بها يومذاك، مشنفا بها أسماع العاشقين والمحبين والمتذوقين للفن، ومرتقيا من خلالها سلم المجد الغنائي العربي.. زيديني عشقا .. مدرسة الحب .. ذكرى إنسان.. فضلا عن قصائد أخرى غناها أيقونة الغناء العربي عبد الحليم حافظ رحمه الله.. “رسالة من تحت الماء” و”قارئة الفنجان”.. آه كم كانت اللحظة جميلة ورائعة.. وكم كان إحساسي عميقا بالحياة وحبها.
بيد أن من عاداتي أن أضع تاريخا على الصفحة الأولى من أي كتاب اشتريته.. أؤرخ به زمن الشراء.. لكن هذا الكتاب “قصائد متوحشة” استوقفني مليا، وأصابني بدهشة عميقة.. وجدت صفحته الأولى موقعة بخط نزار قباني؛ ومؤرخة بتاريخ 8 يناير 1970؛ ومهداة ل….. ؟.. نعم مهداة لسي محمد العربي المساري. مما كان يعني أن بين الرجلين قباني والمساري علاقة ود وصداقة ومحبة وتواصل إنساني وثقافي.
حرت في أمر الديوان، واختلطت طرق تفكيري ثم افترقت على غير هدى.. فقررت استشارة زملائي حول الموضوع التالي: هل أرد الكتاب لصاحبه ؟ أم أحتفظ به لنفسي ضمن مكتبتي المنزلية ؟.
عدت إلى عملي بالمجلة مساء، وأخبرت زملائي بما كان وبما ينبغي أن يكون.. واختلفت الآراء والنصائح.. ثم استقر الأمر في نهاية المطاف على رد الكتاب لصاحبه. وكنت قد اقترحت “مازحا” فكرة نشر خبر صغير بالمجلة نتساءل فيه عن السبب الذي دفع نقيب الصحفيين المغاربة سي المساري على بيع كتبه بعد عودته من مهامه كسفير بالبرازيل لمدة زادت عن ست سنوات بأيام قلائل. غير أن هذه الفكرة الساخرة لم تلق أي ترحيب من لدن زملائي، واعتبروها قدحا لا يستساغ في حق شخصية المساري ومكانته الصحفية والفكرية والسياسية والوطنية ببلادنا.
احتفظت بالكتاب مدة تجاوزت الشهر، ثم قصدت مكتب سي العربي المساري بمقر النقابة. أذن لي سي العربي بقوله: تفضل سي مهران ؟ هكذا ؟.. ذلك أن نقيب الصحفيين لم يكن يناديني إلا بتحريف اسمي الأمازيغي “إمغران” ب “مهران”.. بيد أني لم أصحح له اسمي قط، طيلة سنوات معرفتي به، ورغم أننا كنا نلتقي كثيرا بمصعد البرلمان يوم كان سي العربي المساري وزيرا للاتصال، إلا أن التصحيح لم يصدر مني، احتراما له، إذ لم أكن أريد أن أراه في موقع الخطأ ولو في إطلاق الأسماء.. كما أن تقديري الكبير لعمله بنقابة الصحفيين، وبحكومة التناوب التي كان يرأسها الوطني الكبير سي عبد الرحمن اليوسفي، كان يرفع من أسهم محبتي الخالصة له.
جلست على يمين مكتبه المتواضع، وانطلقت في حديث كنت أعلم نهايته، دون بدايته.. قلت له: أستاذي العربي: أنا لا أومن بعيد رأس السنة المسيحية التي حل مطلعها منذ أكثر من أسبوع، لذلك لم أسع في حياتي قط إلى الاحتفال بها، ولا إلى تقديم هدية ما إلى شخص أعزه وأحبه. ولعل حرصي على ذلك، مرجعه إلى أن ديني يمنعني من القيام بمثل هذا العمل، فضلا عن أن الدراسات التاريخية الموثوقة تنفي أن يكون مولد المسيح عليه السلام قد تم خلال شهر دجنبر.
كنت منطلقا في حديثي دون أن أرتب كلماته وجمله وأفكاره، وكان الرجل منصتا على نحو غريب، وكأنه يسمع لشخص هام بالنسبة له، علما أنني كنت مجرد صحفي مبتدئ لا يتجاوز عمره المهني أربع سنوات. لكن سي العربي المساري معروف بقدرته الخارقة على الإنصات والإصغاء، وعدم مقاطعته لمحاوريه مهما تطاول بنيانهم الكلامي، بل ومهما كانت أحاديثهم جانبية أو متناقضة أو غامضة وغير مفهومة.
لكنني تنبهت إلى كوني استرسلت في التعبير والكلام، وأن الوقت لا يسمح بإغراق الرجل في معان وألغاز هو في غنى عنها، لذلك اختصرت القول، واستطردت حديثي قائلا: لكني أستاذي العربي، قررت خلافا للسنوات السابقة، وخرقا لتعليمات ديني، وضدا على مبادئي وقناعاتي، أن أهدي لك بمناسبة رأس سنة 1994 هذا الكتاب.. وقبل أن يمسك سي العربي بدفتي الكتاب بين يديه الكريمتين، بل وقبل أن يرى عنوانه؛ فاجأني بقوله: إنه كتابي “قصائد متوحشة”.. إن الرجل أبان لي عن علاقة دفينة وقوية وعميقة ومكثفة بكتبه، وإلا كان في حاجة إلى وقت طويل حتى يدرك أن ديوان نزار قباني يعود إليه، وأنه يجهل طريقة وصوله بين يدي.
بيد أن سي العربي المساري استدرك الموقف، وباغتني بسؤال كنت أنوي طرحه على مسمعيه. قال: ولكن كيف خرج الديوان من مكتبتي ؟ وقبل أن أشاركه في بناء علامة استفهامه، أضاف قائلا: لا شك أن “الخادمة” التي تركنا لها مفاتيح الفيلا لتنظيفها، من حين لآخر، يوم كنت سفيرا بالبرازيل، قد اصطحبت معها يوما أحد أطفالها الصغار إلى الفيلا، فعبث الطفل بالمكتبة، وأخرج منها هذا الكتاب دون أن تراه أمه، أو تنتبه لما في يديه وهما يعودان إلى منزلهما.
لقد كان سي العربي المساري دقيقا في تحديد المسؤول عن إخراج الكتاب من بيته إلى أحد باعة الكتب المستعملة، حيث تفادى، بذكاء كبير، اتهام “الخادمة”، وفضل أن يعاتب ولدها الصغير لانتفاء مسؤوليته الجنائية.
رحم الله المساري، وأسكنه فسيح جنانه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.