أزمة القيم وخلل المنظومات: قراءة سوسيولوجية-سياسية في احتجاجات المغرب (شتنبر 2025)
بقلم: الدكتور محمد محاسن
بقلم: الدكتور محمد محاسن
تقديم عام
تسعى هذه الدراسةُ لتحليل التحولاتِ الاجتماعية والسياسية التي قادت إلى الاحتجاجات التي عرفها المغرب ابتداء من 27 شتنبر 2025، بوصفها مرآةً لأزمة مركبة تتجاوز المطلب الاجتماعي إلى خلل بنيوي في منظومة القيم والحكامة.
يُظهر التحليل أنّ الجذر العميق للأزمة يكمن في تآكل الضمير المهني وضعف الوعي بالمصلحة العامة داخل القطاعات الحيوية في البلاد، وخاصة التعليم والصحة والعدالة، وفي فشل الدولة في مأسسة ثقافة المسؤولية والمحاسبة.
وتتعمّق الأزمة أكثر بفعل قصور النموذج التنموي الجديد (2019) الذي لم ينجح في تحويل توصياته إلى إجراءات ملموسة، ما كشف الفجوة بين الخطاب الإصلاحي والواقع التنفيذي.
كما يُبرز المقال التهاون في تطبيق الفصل 33 من دستور 2011، الذي نص على إحداث مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي، والذي لم يُفعّل بعد رغم مرور سنوات، مما يُفسّر جانبًا من عزوف الشباب عن المشاركة السياسية واتجاههم نحو الفضاء الرقمي كمنبرٍ للتعبير والاحتجاج.
في ضوء ذلك، يَستخلص المقال أنّ الحركات الشبابية الرقمية ليست امتدادًا للربيع العربي، بل تعبير عن جيل جديد من الوعي المواطني يطالب بتدخّل الدولة لا لمصادرة الحرية، بل لإحقاق العدالة الاجتماعية واستعادة الثقة في المؤسسات.
وتخلص الدراسة إلى أنّ الخروج من الأزمة يمرّ عبر إصلاح بنيوي شجاع يفصل بين السلطة والمال، ويُفعِّل النصوص الدستورية المُعطّلة، ويُعيد الاعتبار للمدرسة العمومية، والمستشفى الوطني، والعدالة المستقلة، باعتبارها ركائز الدولة الاجتماعية الحديثة الحقة.
الكلمات المفاتيح
الاحتجاجات الاجتماعية – المغرب 2025 – النموذج التنموي الجديد – الضمير المهني – الشباب الرقمي – الفصل 33 من الدستور – الثقة في الدولة – العدالة الاجتماعية – الحكامة – الدولة الاجتماعية – الحركات الرقمية – الإصلاح المؤسساتي – السوسيولوجيا السياسية
توطئة
لم تكن الاحتجاجات التي شهدها المغرب ابتداء من 27 شتنبر 2025 وما بعده حدثًا عابرًا، بل تجسيدًا لأزمة مجتمعية عميقة تراكمت عبر سنوات، تُعبّر عن انهيار الثقة بين المواطن والدولة وعن تآكل الضمير المهني داخل المؤسسات العمومية.
إنها ليست أزمة مطلبية آنية، بل أزمة وعي وقيم ومواطنة، تضع المغرب أمام سؤال جوهري: كيف يمكن استعادة الثقة في الدولة وفي جدوى العمل العام؟
أولاً: أزمة الضمير المهني وبنية الوعي الجماعي
يبدو أن الأزمة إنما تبدأ من فقدان الإحساس بالمسؤولية الفردية، حيث تحوّلت الوظيفة العمومية من مجالٍ للخدمة إلى وسيلةٍ لضمان الدخل دون أداء فعلي.
فالتهاون والرشوة وسوء معاملة المواطنين أضحت تمارَس كأنها سلوكيات اعتيادية، في غياب الوازع الأخلاقي والمهني.
وكلما ترسّخت هذه الممارسات في القطاعات الحيوية، تراجع الوعي الجماعي بالمصلحة العامة، فتولّد شعور باللاجدوى وانهارت ثقة المواطن في المرفق العمومي.إنها في جوهرها أزمة ضمير قبل أن تكون أزمة قانون.
ثانياً: التعليم والصحة والعدل… ثلاثية الخلل البنيوي
- التعليم: من رسالة إلى تجارة
والملاحَظ تراجع البعد التربوي لصالح منطق السوق؛ إذ يُهدر الزمن المدرسي بين المؤسسات الخاصة ودروس الدعم، بينما يُهمل التعليم العمومي.
وفي التعليم العالي، تتفاقم المحسوبية في البحث والتأطير والتوظيف، وتُختزل الجامعة في فضاء إداري فاقد للوازع الأكاديمي، ما أضرّ بمصداقية التكوين الجامعي وأضعف مكانة الأستاذ الباحث.
- 2. الصحة: جسد الوطن المريض
المستشفيات العمومية تعاني من سوء التسيير، غياب الأطباء، تدني الخدمات، واستفحال الرشوة.
المريض الفقير لا يطلب أكثر من معاملة تحفظ كرامته، لكنه يجد نفسه أمام بيروقراطية باردة أو مصحات خاصة تستنزفه بفواتير باهظة.
لقد أصبح الحق في العلاج امتيازاً طبقياً بدل أن يكون حقًا إنسانيًا مكفولاً.
- 3. القضاء: العدالة المفقودة
حين يخاف المبلّغ عن الفساد من العقاب بدل الحماية، تنهار العدالة.
إن استمرار التحيز الإداري، وتوظيف القانون لإسكات الأصوات الحرة، كلها مظاهر لتآكل سلطة القانون الأخلاقي في مقابل سلطة النفوذ والمال.
ثالثاً: الليبرالية المتوحشة ومسؤولية الدولة
إن تبنّي نموذج اقتصادي ليبرالي مفرط جعل الدولة تتراجع عن وظائفها الاجتماعية، تاركة المواطن فريسة للمضاربة، وغلاء الأسعار، واستنزاف القطاع الخاص للموارد العمومية.
لقد تحوّلت الحكومة إلى مدير مالي أكثر منها فاعلاً اجتماعياً، وانكمش مفهوم “الدولة الحامية” لصالح “الدولة المراقِبة“، وغابت العدالة المنصفة التي تشكّل جوهر الاستقرار السياسي والاجتماعي.
والأدهى من ذلك أن ما سُمِّي بـ النموذج التنموي الجديد، الذي قدمه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2019 بتكليف سامٍ من جلالة الملك، لم يُفلح في تحقيق الأهداف التي رُسمت له.
فرغم وضوح تشخيصه وتنوع مقترحاته، فإن الواقع يبرهن على قصور فعاليته في المجالات الأساسية التي تشكّل اليوم محور الاحتجاجات: التعليم، الصحة، والعدالة.
لقد ظلت توصياته حبيسة الوثائق والندوات دون تنزيل ملموس، في غياب رؤية تنفيذية واضحة أو آليات إلزامية للمتابعة والتقييم، ما أدى إلى تراجع الثقة في جدواه حتى في الأوساط الأكاديمية والاقتصادية التي رحبت به في بدايته.
إن النموذج التنموي، بصيغته الحالية، أضحى مرآة للهوة بين التخطيط والواقع، وبين الخطاب والإرادة الفعلية للإصلاح.
رابعاً: المجتمع بين الصبر والانفجار
لقد صبر الشعب المغربي طويلاً، وتحمل كثيراً من الأزمات في صمت، لكن تجاهل معاناته واستمرار اللامبالاة الرسمية جعلا الصبر يتحول إلى احتقان.
فالاحتجاج لم يعد تعبيراً عن الغضب بقدر ما أصبح نداءً للاستماع ومحاولة لاستعادة الحوار الغائب بين الدولة ومواطنيها.
إنها صيحة مجتمع يطالب بالإصلاح لا بالانفصال، وبالكرامة لا بالمجابهة.
خامساً: من ربيع الشارع إلى يقظة الوعي الرقمي
حري بنا إثارة الانتباه إلى اختلاف المشهد المغربي في 2025 عن موجة 2011 اختلافاً جوهرياً.
فما يحدث اليوم ليس “ربيعاً عربياً” جديداً، بل مرحلة ما بعد الربيع العربي، حيث تحوّلت أنماط الاحتجاج إلى صيغ رقمية جديدة يقودها جيل شبابي متصل رقمياً لا حزبياً، يتفاعل لحظياً مع الأحداث عبر المنصات الاجتماعية.
إنه جيل متحرر من الأطر التقليدية، يُعبّر بالصورة والهاشتاغ والمباشر، ما يجعل التعبئة الاجتماعية اليوم أكثر سرعة وانتشاراً، وأصعب على الاحتواء أو التوجيه.
في سنة 2011، اختار المغرب طريق الإصلاح في ظل الاستقرار عبر تعديل دستوري وسّع من صلاحيات الحكومة وقلص من سلطة الملك.
أما اليوم، فقد تغيّر المشهد جذرياً؛ فالشارع المغربي لم يعد يطالب بتقليص صلاحيات الملك بل بتدخله المباشر، إذ يرى فيه الضامن الأخير للعدل والإنصاف في ظل فشل الوسائط السياسية والإدارية.
هذه المفارقة تعبّر عن تحوّل في المخيال السياسي المغربي: من “الحد من السلطة” إلى “المطالبة بتفعيلها”.
إنها لحظة نضج سياسي بقدر ما هي إنذار بضرورة استعادة الدولة لهيبتها وفاعليتها الاجتماعية.
ومع ذلك، فإن هذا الجيل الرقمي الجديد، رغم وطنيته وجرأته، يظل أكثر عرضة للاختراق والاستغلال الإعلامي والسياسي، مما يفرض على الدولة إدارة ذكية للتواصل العمومي وفهماً جديداً لمعنى الأمن والاستقرار في زمن الشبكات.
ومن اللافت أن هذا الجيل، الذي يشكل غالبية السكان، ما زال مُهمَّشاً دستورياً ومؤسساتياً رغم ما نص عليه الفصل 33 من الدستور المغربي لسنة 2011 من التزامات واضحة تجاه الشباب.
فالفصل المذكور يُحمّل السلطات العمومية مسؤولية توسيع وتعميم مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، ومساعدتهم على الاندماج في الحياة العملية والجمعوية، وتيسير ولوجهم إلى الثقافة والعلم والفن والرياضة.
كما ينص على إحداث مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي من أجل تحقيق هذه الأهداف.
غير أن هذا المجلس، وبعد مرور أكثر من ست سنوات على النص الدستوري، لم يَرَ النور بعد، في مفارقة دستورية تثير أكثر من علامة استفهام، وتكشف جانباً من أسباب الإحباط واللامشاركة السياسية لدى الشباب المغربي.
إن تجاهل هذه المقتضيات الدستورية يُعد إخلالاً بالالتزام الوطني تجاه جيلٍ هو عماد المستقبل، ويُفسّر جانباً من الانفجار الرقمي الذي يُعبّر من خلاله الشباب عن تطلعاتهم واحتجاجهم على غياب الصوت والتمثيل.
سادساً: المغرب في السياق المقارن
تُظهر التجارب المقارنة أن جذور الأزمة المغربية لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها في تونس ومصر وفرنسا، حيث شكّل انهيار الثقة في الدولة العامل المشترك الأبرز.
لكن المغرب يتميز بقدرته التاريخية على امتصاص الأزمات عبر الإصلاح التدريجي بدل القطيعة.
واليوم، تبدو الحاجة ماسة إلى جولة ثانية من الإصلاح، أعمق وأكثر شجاعة، تُفعّل النصوص الدستورية وتربط الخطاب السياسي بالفعل التنموي الحقيقي.
سابعاً: نحو مشروع وطني لإعادة بناء الثقة
إن تجاوز الأزمة يتطلب إصلاحاً شجاعاً وبنيوياً يعيد التوازن بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة، أهمها:
- الفصل بين السلطة والمال منعاً لتضارب المصالح.
- توسيع قطاعات السيادة لتشمل التعليم، الصحة، والعدل.
- تطهير المؤسسات من شبكات الزبونية والفساد الإداري.
- تطبيق العدالة دون تمييز ورفض العقوبات البديلة التي تُكرّس الإفلات من العقاب.
- إعادة تأهيل الأطر العمومية في مجالي التربية والصحة تكويناً أخلاقياً ومهنياً.
- الرقابة الاقتصادية الصارمة لحماية القدرة الشرائية للمواطنين.
- تأطير الشباب والمجتمع المدني في جمعيات مسؤولة تُنمّي روح المواطنة والمبادرة.
- تفعيل المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي من أجل مأسسة أصوات الشباب
- استرجاع هيبة المدرسة والمستشفى العمومي كمؤسستين رمزيتين للمساواة الوطنية
- تقييم نتائج النموذج التنموي الجديد عبر مؤشرات تشاركية شفافة قصد استخلاص الدروس من التجربة واستشراف المستقبل برؤية أكثر نجاعة.
عود على بدء
إن ما تعرفه البلاد اليوم ليس تمرداً اجتماعياً بقدر ما هو نداء لإصلاح أخلاقي ومؤسساتي شامل.
فعندما تستعيد المدرسة والمستشفى العمومي مكانتهما، ويشعر المواطن بأن العدالة تنصفه والشبابُ بأن صوتهم مسموع، عندئذ فقط يمكن أن نتحدث عن مغربٍ جديدٍ، أكثر عدلاً وأمناً واستقراراً.
إن المعركة الحقيقية ليست بين الدولة والمجتمع، بل بين الضمير الوطني والتسيب الأخلاقي، بين الإصلاح الجاد والجمود المصلحي.وحين ينتصر الضمير، ينتصر الوطن.