القيادة الأكاديمية وتعدد تمثلات الواقع: من الاختلاف إلى التوافق الواعي

بقلم الدكتور محمد محاسن 

 

بقلم الدكتور محمد محاسن 

تتسم المؤسسات الأكاديمية بتعقد بنياتها وتنوع فاعليها وتداخل رؤاهم، ما يجعل الاقتصار على إصدار الأوامر أو ضبط الإيقاع التنظيمي غير كافٍ في عالم اليوم. لقد أصبحت القيادة الأكاديمية الحديثة دعوة إلى الإصغاء العميق، ومهارة في احتضان التعدد، واعترافًا بأن الرؤية الفردية للواقع ليست سوى جزء من لوحة أوسع. فالقائد الحقيقي لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يدرك أن تمثله للواقع نسبي، ويظل في سعي مستمر نحو استيعابٍ أرحب وأشمل.

لكلٍّ منا نافذته التي يرى منها العالم

الواقع، في جوهره، ليس مشهدًا واحدًا يُعرض للجميع بالوضوح نفسه، بل هو أقرب إلى بانوراما شاسعة لا يمكن احتواؤها من زاوية نظر واحدة. فنحن ننظر إلى العالم من خلال نوافذنا الخاصة، تلك التي تصوغها تجاربنا الحياتية، بنياتنا العصبية، ثقافتنا، معتقداتنا، وقيمنا.

لذلك، لا يُعد تباين الآراء غريبًا، بل هو نتيجة طبيعية لاختلاف الزوايا التي نطلّ منها على الحقيقة. فالناس لا يختلفون لأنهم يعارضون، بل لأن كلًّا منهم يعكس وجهًا خاصًا من أوجه الواقع، كما تعكس المرايا شظايا الضوء من جهات متعددة. إن الحقيقة ليست مطلقة في عين واحدة، بل فسيفساء لا تكتمل إلا بتداخل قطعها المختلفة.

الاختلاف: مفتاح لا قيد

الاختلاف في الرأي لا ينبغي أن يُفهم بوصفه معارضة تلقائية أو رفضًا غير مبرر، بل هو إشارة خفية إلى أن ثمة زاوية لم تُر بعد، ومعطى لم يُؤخذ في الحسبان. وكأن الرأي المخالف يهمس للقائد: “ثمّة منظور آخر لم تكتشفه بعد.”

في هذا السياق، يغدو الرأي الآخر مصباحًا ينير عتمة التفكير الأحادي، لا عقبة ينبغي تجاوزها، إنه بالأحرى فرصة ينبغي الإصغاء إليها. فالرؤى المتعددة تكشف النقاط العمياء في التصور، وتدفع إلى إعادة التقدير وربما تعديل المسار، مدعومة بكمّ جديد من الفهم والمعنى.

القيادة بصوت الجماعة: نحو توافقٍ واعٍ

إن القيادة الأكاديمية في سياقها الحديث لم تعد تقوم على فرض التصورات أو السعي لخلق إجماع صوري، بل على بناء مساحات حوارية يُستمَع فيها لكل الأصوات، ويُحتضن فيها الاختلاف كمداد إضافي في كتابة المعنى الجماعي.

فليس المطلوب من الجميع أن يذوبوا في رأي واحد، بل أن يُمنح كل فرد فرصة التعبير عن موافقته الواعية، لا انصياعًا بل إيمانًا بالمشروع المشترك. فالتوافق هنا لا يعني التطابق، بل التقاطع حول ما يمكن السير فيه سويًّا رغم تنوع التفاصيل.

القائد الناجح هو من يحوّل التعدد إلى تناغم، يؤلف بين النغمات المتنوعة في لحن واحد يُطرب دون أن يُزعج، ويجمع دون أن يُقصي، ويقود دون أن يُملي.

القيادة كفنّ تواضعٍ واستيعاب

في عالم سريع التحول، تتقاطع فيه المعارف وتتشابك الرؤى، لم تعد القيادة الأكاديمية مجرد امتلاك لرؤية، بل صارت اعترافًا بمحدودية كل رؤية. هي فن الإصغاء قبل اتخاذ القرار، والتواضع أمام تعدد الحقائق، والنظر إلى كل لقاء فكري كفرصة لمراجعة الذات، وكل اختلاف كدعوة لإعادة البناء.

عندها، تتحول النظرة إلى العمل الجماعي من عبء إلى رفقة فكرية، ومن مهمة ثقيلة إلى تجربة إنسانية نبيلة. فعندما تُضاء الطريق بمصابيح العقول المختلفة، يصبح المسير أكثر أمانًا، ويغدو الإنجاز أكثر غنى، وتصبح القيادة ممارسة جماعية تُبنى على الوعي، لا على الأوامر.

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد