لماذا لا تُسهم الجامعات المغربية في تخريج أدباء ونقاد من خريجي شعبة اللغة العربية؟
بقلم : الكاتب نور الدين طاهري
بقلم : الكاتب نور الدين طاهري
تعد الجامعات مؤسسات أساسية في تكوين النخبة المثقفة والمبدعة في مختلف المجالات، وخاصة في شعبة اللغة العربية التي يُنتظر منها أن تكون مهدا لصناعة الكُتاب والشعراء والنقاد. ومع ذلك، نجد أن هناك فجوة كبيرة بين ما تقدمه الجامعات من تعليم أكاديمي وما يتوقعه المجتمع من تخريج أجيال من المبدعين في هذا المجال. فالكثير من الطلاب الذين يلتحقون بشعبة اللغة العربية يحصلون على شواهد عليا مثل الماستير والدكتوراه، إلا أن القليل منهم يبرز ككاتب مبدع أو شاعر موهوب أو ناقد ذي رؤية فكرية عميقة. هذه الإشكالية تثير تساؤلات جوهرية حول دور الجامعات ومدى قدرتها على تحقيق تلك الأهداف الثقافية والإبداعية التي ترتبط بشعبة الأدب العربي.
يبدو أن أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا الواقع هو الهوة الواسعة بين المناهج الأكاديمية التي تُدرَّس في الجامعات وواقع الإبداع الأدبي المعاصر. على الرغم من أن دراسة الأدب الكلاسيكي والتراث العربي أمر بالغ الأهمية لفهم الأسس التي بُني عليها الأدب العربي، إلا أن هذا التركيز المفرط على النصوص القديمة دون إيلاء اهتمام كافٍ للأدب الحديث يجعل الطالب منفصلا عن حركة الأدب العالمية والعربية الحديثة. هذا الفصل بين التراث والحداثة يجعل الطلاب يشعرون بأن ما يدرسونه ليس مرتبطًا بشكل مباشر بالواقع الأدبي الذي يعيشونه، ما يخلق نوعا من العزلة الأكاديمية.
كما أن مناهج شعبة اللغة العربية غالبا ما تكون نظرية أكثر من كونها عملية. يُدَرّس الطلاب تاريخ الأدب ونظرياته بشكل مكثف، لكن هذا التعليم النظري لا يترافق عادة مع فرص لتطبيقه عمليا من خلال الكتابة الإبداعية أو التحليل النقدي. يمكن القول إن التعليم الأدبي في الجامعات لا يشجع على الإبداع الشخصي أو على تطوير مهارات الكتابة، إذ يُركز على تلقين المعلومات أكثر من تعزيز مهارات التفكير النقدي والكتابة الإبداعية. هذه الفجوة بين الجانب النظري والعملي تؤدي إلى ضعف القدرة على إنتاج أدب أو نقد يواكب تطلعات العصر.
من جهة أخرى، هناك نقص واضح في التوجيه الفردي من قبل الأساتذة داخل شعبة اللغة العربية. فالأساتذة في الكثير من الأحيان يركزون على الجانب البحثي والنظري في تدريسهم، دون تقديم الدعم الكافي للطلبة الذين يرغبون في تطوير مهاراتهم الأدبية. هذا الغياب للتوجيه الشخصي يحرم العديد من الطلبة من فرصة الحصول على النقد البنّاء الذي يمكن أن يساعدهم على تطوير كتاباتهم وتحليلهم للنصوص الأدبية. فالكثير من الطلبة يدخلون شعبة اللغة العربية بدافع الحب للأدب والرغبة في الكتابة، لكنهم يجدون أنفسهم في نظام تعليمي يفتقر إلى الدعم الذي يحتاجونه ليصبحوا كُتابا أو شعراء أو نقادا.
من جانب آخر، نجد أن الضغط الأكاديمي المفروض على الطلبة في المستويات العليا مثل الماجستير والدكتوراه يُشكل عائقا آخر أمام تطورهم الإبداعي. حيث يُجبر الطلبة على إنهاء أبحاثهم العلمية والتقيد بمتطلبات التخرج التي تميل إلى الجانب الأكاديمي البحثي أكثر من الجانب الإبداعي. هذا التركيز على البحث الأكاديمي يحد من قدرة الطلبة على التفكير الحر والتعبير عن أنفسهم من خلال الكتابة الإبداعية. لذلك، يجد الكثير من الطلبة أنفسهم مجبرين على التضحية بوقتهم الذي يمكن أن يُخصص للإبداع، لصالح إنجاز البحوث الأكاديمية التي لا تسهم بالضرورة في تطوير مهاراتهم الأدبية.
كما أن المجتمع يلعب دورًا محوريا في عدم بروز كُتاب وشعراء من شعبة اللغة العربية. يُعتبر الأدب في الكثير من المجتمعات العربية مجالًا غير مربح ولا يوفر فرص عمل مستقرة، ما يدفع العديد من الطلبة إلى البحث عن مجالات مهنية تضمن لهم وظائف بعد التخرج، مثل التدريس أو العمل في المؤسسات الحكومية. هذا الواقع يؤدي إلى فقدان الدافع لدى الكثير من الطلبة الذين يرغبون في أن يصبحوا كُتابا أو شعراء، ويجعلهم يركزون على مسارات مهنية أكثر أمانا واستقرارا.
ولا يمكن إغفال دور البيئة الثقافية المحيطة بالجامعات، حيث إن المؤسسات الثقافية خارج الجامعة لا تقدم الدعم الكافي للطلبة لتطوير مهاراتهم الأدبية. قلة المهرجانات الأدبية والمسابقات والجوائز المخصصة للطلبة، وضعف انتشار المجلات الأدبية التي يمكن للطلبة النشر فيها، يحد من قدرة الطلبة على عرض أعمالهم وتلقي النقد البنّاء الذي يمكن أن يسهم في تطويرهم. هذا الغياب للمحافل الأدبية يجعل الطلبة يشعرون بعدم وجود مكان لهم في الساحة الأدبية، ما يزيد من ابتعادهم عن السعي لتطوير مهاراتهم الإبداعية.
وفي ظل التطور الرقمي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، نجد أن الأدب العربي يتأثر بشكل كبير بهذه التحولات. الكثير من الطلبة يميلون إلى استخدام لغة مختصرة وسريعة في تواصلهم اليومي عبر الإنترنت، مما يؤثر سلبا على قدرتهم على كتابة نصوص أدبية بلغة فصحى متينة. كما أن انتشار اللغة الدارجة في الكتابات الحديثة يضعف من مهاراتهم في التعبير عن الأفكار بشكل راقٍ ومتماسك، ويبعدهم عن الاهتمام باللغة العربية التقليدية.
وفي مواجهة هذه التحديات، يجب على الجامعات اتخاذ خطوات جادة لإصلاح الوضع. يمكن أن تبدأ بإعادة النظر في المناهج الدراسية لشعبة اللغة العربية، بحيث تشمل الأدب المعاصر والنصوص الحديثة، وتوفر للطلبة فرصًا للممارسة العملية من خلال ورشات عمل تعزز من مهارات الكتابة الإبداعية والتحليل النقدي. كما يجب توفير التوجيه الشخصي من قبل الأساتذة للطلبة الذين يرغبون في تطوير أنفسهم ككُتاب أو نقاد، إلى جانب تشجيعهم على نشر أعمالهم والمشاركة في فعاليات أدبية.
علاوة على ذلك، ينبغي على الجامعات التعاون مع المؤسسات الثقافية الخارجية لتنظيم فعاليات ومسابقات أدبية، مما يتيح للطلبة فرصة عرض أعمالهم وتلقي النقد البنّاء. هذا النوع من التعاون بين الجامعات والمؤسسات الثقافية يمكن أن يعزز من الحضور الأدبي للطلبة ويشجعهم على المضي قدما في تطوير مواهبهم الأدبية. يمكن القول إن الجامعات تتحمل مسؤولية كبيرة في تشكيل الجيل الجديد من الكُتاب والشعراء والنقاد، ولكن ذلك لن يتحقق إلا من خلال تحديث المناهج التعليمية، وتعزيز الجانب العملي والتطبيقي، وتقديم التوجيه الشخصي، وتوفير بيئة ثقافية محفزة داخل وخارج الجامعة. فقط بهذه الطريقة يمكن لشعبة اللغة العربية أن تصبح نواة حقيقية لتخريج مبدعين يحملون لواء الأدب العربي.