محمد السوسي :إعلامي مغربي
درجة حرارة الطقس 43 ، المكان شبه فارغ من المارة . الناس أجبروا على البقاء داخل منازلهم خوفا من لفح الشمس الحارقة. وحده الإحصائي يطوف بين أزقة منطقته الإحصائية. يطرق أبواب بنايات عشوائية متخطيا مسيلات مياهها العادمة، ومتحاشيا نباح كلابها الضالة . يبتسم في وجوه المستجوبين في ملاطفة زائدة كما لو أنه يريد ان يسوق لمنتوج من نوع خاص. يقدم نفسه لهم مبرزا شارته المعلقة بعنقه . يطمئنهم أن العملية واجب وطني و الكل ملزم بالانخراط لإنجاحها . يشرع في طرح الاسئلة مالئا خانات استمارة مؤلفة من عدة صفحات، مستعطفا الا يمتنع احد عن الإجابة على أسئلته المملة المحرجة. استمر على تلك الوثيرة إلى آخر يوم من الفترة المخصصة للعملية. ظهرت على محياه أنئذ علامات الابتهاج كعائد من رحلة شاقة طويلة. قصد مكان إيداع عدته الإحصائية .ناداه أحدهم : هناك في زاوية معزولة شخص لم يتم إحصاءه . أسرع بخطى طويلة إلى الزاوية. وجد كومة من حشائش البردي وأوراق الكارتون بنيت على شكل هرم . تفقدها بعينين جاحظتين متصببا عرقا . وجد داخلها شيخا هرما في السبعينيات من العمر بقامة طويلة مقوسة ، متدلي اللحية ، يسيل مخاط أنفه من شدة السعال وقد غطت التجاعيد كل ما ظهر من جسده . يتمتم بصوت لا يفهم غير عابء بأحد. يلامس ويداعب بلطف نفرا من القطط اختارت أن تسكن معه وتؤنسه في وحشته . قدم الاحصائي للعجوز نفسه طارحا أسئلته المعتادة : ما اسمك؟ نسبك ؟ مكان وتاريخ ازديادك؟ رقم بطاقة تعريفك الوطنية؟ …. يفعل ذلك كما لو أنه يخاطب جمادا . لم يحصل على أي جواب . أحس بالإحراج والحيرة . استغاث بعون السلطة لعله يظفر ببعض المعلومات عن هذا الكائن المشرد . جاءه العون بمعلومات عن العجوز غير مؤكدة : كل ما يعرف عنه أنه جاء إلى المنطقة أخرسا في طفولته ، واشتغل عند أحدهم بالرعي في ظروف مأساوية ، وفي مرحلة شبابه المتأخرة ظل يتسكع بين أزقة المنطقة مصابا بأمراض نفسية جعلته يعيش في أقصى درجات العزلة. وحين أدركته الشيخوخة انزوى بهذا الركن وظل قابعا به تصله مكرمات المحسنين إليه . أمام هذا المشهد الرهيب اضطر الإحصائي متأسفا أن يصوغ افتراضيا لهذا المواطن الفاقد الهوية اسما مستعارا ، نسبا ، مكانا وتاريخ ازياد وعنوانا. دون المعلومات الافتراضية على استمارة خاصة ورتبها ضمن استماراته الإحصائية ثم انصرف. التقى بأصدقاء له يزاولون نفس المهمة . حدثهم عن الحالة التي صادفها بنبرة مليئة بالرحمة والشفقة والاستغراب … ردوا عليه أنهم صادفوا حالات كثيرة من نفس النوع متسائلين : أليس من العارأن يوجد منتمون لهذا الوطن بدو ن هوية ؟…..من المسؤول عنهم ؟ من أوصلهم إلى هذه الوضعية ؟ ما مصيرهم ؟ أين هم من حقوق المواطنة ؟ .. تداول الأصدقاء الاحصائيون وتبادلوا بحسرة أجوبة عن هذه التساؤلات الكبرى بقيت مبهمة وغير مقنعة في نظر بعضهم . ثم انصرف كل واحد منهم إلى شأنه مرددا : ( الكرة ليست بيدي…) ..