بقلم الشاعرة المغربية ربيعة الكوطيط
جلست زينة قبالة ابنتها صفية تراقبها وهي تسخن الفرن الطيني بالوقيد وهو بقايا الانعام اليابس.. الذي عادة ما تجمعه بناتها في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر.. ها هي بعد ان شطبت الفرن بدأت بوضع خبز القمح الطري…. تنقل عينيها مع يدي صفية من الطبق الى الفرن ومن الفرن الى الطبق.. في حركة متقنة ..
مدت يدها الى خبزة يتصاعد بخارها.. اخذت قطعة منها وبدأت تلوكها بلذة متناهية.. وغابت في تأملاتها ..
جميلة هي بنتي صفية بأنفها الدقيق وعينيها العميقتين وفمها المرسوم كما الخاتم.. قدها أهيف ممشوق، تملك الخفة واللسان الذي لا يكف عن التقليد.. لها قدرة كبيرة على الإضحاك.. لا تحب أن تتعلم إلا ما يجعلها تفهم دينها ويؤهلها لبيت الزوجية.. مهووسة بالنظافة والتأنق .. يحبها الجميع.. رحيمة سمراء لها عينان كالمها أنفها يشبه نوعا ما أنفي الأفطس لكنه أدق قليلا.. قامتها طويلة ممتلئة.. ابتسامتها رائقة كالصبح لكنها جادة في كل شيء.. تجدها تلتهم ما يحدثنا به أبوها.. تلتقط وتسجل وتحاول الحفظ.. كلما أنهت عملها جلست قبالته تلاحقه بأسئلتها.. طبعها الجاد منحها نوعا من القوة الخفية التي لا توجد الا عند القليل من الناس.. نفسها عزيزة لدرجة انها تفضل الموت على أن تطلب شيئا أو أن تتعرض للوم.. تحاول الوصول الى الكمال.. مستعدة للقيام بكل شيء ومساعدة الاخرين بكل ما تملك.. وهذا جعلها ملجأ لكثيرات يخشينها ويحترمن رأيها ويعملن به.. وحتى بعض الرجال يسالونها في بعض الأمور..
أحبهما كما أحب ابنتي زوجي.. عايشة و”فطنة”.. لكن هاتين الاخيرتين بعيدتان عني.. لأني امرأة مسالمة أكثر من اللازم “او اني ساذجة كما يقولون” لا أفهم في الحياة شيئا.. لهذا وجدت صعوبة في ضمهما الي.. لا أهتم بما يقال عني.. كل ما يهمني هو أن اقرأ الفرحة على وجوه الناس عندما اقدم بعضا من الفواكه او الحليب والزبدة والجبن الابيض او بعض البيض..
تزوجت فطنة وعمرها اثنتي عشرة سنة وانتقلت لتعيش بقرية قرب الشاطئ الممتد بين طنجة واصيلا.. تبعتها اختها عايشة بعد سنتين حيث سكنت الى جانبها.. فاطنة لم ترزق بأولاد بينما عايشة رزقت بطفل أسمته” محمدا”.. هذا الطفل الذي سيفقد عينه اليمنى بسب شغب أمه.. فقد حملته فوق ظهرها وصعدت به قمة شجرة التين كما هي عادتها.. هذه المرة انغرس عود في عين الطفل المسكين. ورغم الاسعافات الاولية وزيارة المصح الذي كان يشرف عليه الإسبان آنذاك فقد أضحى الطفل أعور ..
– وا موي فين تايهة ؟ (امي اين تجولين ؟) نادتها صفية وقد انتهت من عملية الخبز ..
ابتسمت زينة وغمغمت كعادتها.. نهضت بخفة طفلة.. وتبعت ابنتها لحوش الدار.. حيث شجرة التين الكبيرة التي تمد اغصانها الى الفضاء الشاسع امام باب المنزل (الدويرة).. وكأنها تعلن عن وجودها للزائرين.. يحيط بالمنزل سور من اغصان التوت السود وعرائش مختلفة.. المنزل عبارة عن ثلاث بنايات.. من الطين المغطى بالجير الأبيض.. البنايتان الاولى والثانية ملتصقتان.. وكل واحدة لها باب خشبي باللون الأزرق النيلي يفتح على مدخل.. وقد اشتمل على مصطبات مدهونة بالجير الابيض موضوع فوقها قطع من الزرابي التقليدية لأجل الجلوس.. وسطها باب يؤدي الى غرفة مستطيلة.. عن اليسار فراش هو الاخر مبني ومغطى بأفرشة من الصوف.. وستائر من النايلون وباقي الغرفة افرشة على الارض ووسادات من الكتان اما الجدران البيضاء فتجد فيها نوافد اثنان تطلان وراء الدار حيث احواض النعناع واللويزاء وشجيرات الاجاص والرمان والسفرجل.. اما النافدة الوسطى فلا منفد لها فقط خصصت لوضع مرآة صغيرة امامها قنينة كحل ومرشة ماء الزهر ومشط خشبي.. وغراف زجاجي ابيض كبير فيه بعض الصيغة ..
نفس الاشياء تقريبا في المنزل المحادي له فقط توجد به خزانة خشبية تمتلئ بالأواني الفضية والنحاسية والزجاجية خاصة بالضيوف.. اما البناية الاولى مخصصة لصفية وزوجها.. والثانية مخصصة للبنات ..اما الذكور فقد كانوا ينامون بالمدخل.. وكأنهم يحرسون البيت ..
في الجانب الاخر غرفة خصصت للطبخ.. تتضمن كانونا وقطع من جدوع الدوح تستعمل كراسي.. تتوسطه مائدة صغيرة تستعمل لكل انواع الطبخ.. في الجانب المقابل توجد ادراج طينية وضع فوقها اواني نحاسية قد اسودت قيعانها بفعل نار الوقيد والحطب ..واخرى من الخزف الأجوري المطبوخ الخاص بالطبخ.. ثم صواني وبعض الكؤوس البيضاء اباريق من الالومنيوم خاصة بالقهوة والحليب ومجموعة اباريق فضية خاصة بالشاي ..
وضعت الزهرة صينية الشاي فوق المائدة بالمدخل ووضعت اواني تشتمل على الزبدة والعسل والبيض الذي مازال يتراقص في زيت الزيتون .. والخبز الطري الذي خبزته امها ..قالت وهي تنظر الى جدتها الساهمة كعادتها..
– عزيزة.. (جدتي) تناولي فطورك
ابتسمت زينة وهي تغمغم.. لقد افطرت الى جانب الفرن عندما كانت تخبز أمك..
نظرت صفية وهي رافعة يدها تفرغ الشاي لكي تتجمع الرغوة (رزة) وقالت:
– موي هذاهو طبعها.. اكلي واموي.. واتركي هذه القناعة المفرطة التي لن تفيدك في صحتك.. فهل قطعة خبز صغيرة تعتبر فطورا
– ومالها أليست رزق الله ردت .