شهادة رزاق عبدالرزاق في حق رشيد نيني

رزاق عبد الرزاق  كاتب مغربي

للمرة الثانية ، ألغي اللقاء مع صاحب زاويةشوف تشوفرشيد نيني ، لأسباب مجهولة . هذا اللقاء   كان مبرمجا ليوم الأربعاء 14 فبراير، ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب . حينما توصلت بالبرنامج العام عبر البريد الإكتروني ، وعلمت بهذا اللقاء قررت الذهاب إلى الدارالبيضاء، لأساهم في النقاش، باعتباري أني كنت الأول في إقحام رشيد نيني في عالم الصحافة والإعلام. هيأت ورقة وتوجهت الى المعرض. أول شيء صدمني وهو أن بطاقة الفنان التي تمنحها الوزارة للمؤلفين والكتاب لا تصلح لشيء . إذ يجب على الكاتب شراء تذكرة الدخول . مع الأسف عند وصولي إلى قاعة وجدة بعد جهد شاق ، لم أجد إلا الكراسي الفارغة . فلمن يجهل بدايات نيني في مجال الصحافة ، نعمم مضمون هذه الورقة التي كنت أنوي قراءتها، إن سمح لي مؤطر اللقاء بالإفصاح عن محتواها .مع الأسف لم نجد لا الكاتب ولا المؤطر .

 

هل نيني النجاحات الأسطورية هو نيني البدايات الشائكة ؟

شهادة يدلي بها رزاق عبدالرزاق

 

أريد مخاطبة نيني البدايات وليس نيني النجاحات الأسطورية، إن كان حقا تكديس المال وتقديسه فعل أسطوري : هل لا زال يتذكر أول شخص أخذ بيده، ليساعده على شق الطريق الشائك ، في مجال الصحافة والإعلام؟ المكان: فندق حسان بالرباط ، والمناسبة : الإعلان عن نتائج جائزة أدبيه اكتفى مقرروها بالتنويه، فبدأ الشاب المُنوّه به يحتج . لكن بعد  الاستماع للمقتطف الذي قرئ على العموم ، اكتشف الناقد الذي كنت ارتدي معطفه، أنه أمام ظاهرة متفردة، وليس أمام شاب عادي جاء للعاصمة، ليظهر كفاءاته الإنشائية.

ما أتار انتباهي هو استعماله للاستعارة السيمانتيقية ”حمار السلام”، وهي مركبة من كلمتين . إن الكتاب الكلاسيكيين لا يتحدثون إلا عن حمام السلام، الذي يرجع بنا إلى قصة نوح ، أما الشاب الذي حاولت مواساته على الخسران الكبير ، والذي كنت أجهل كل شيء عنه، فقد رجع إلى كائن ليس له   منقار، لينقل غصن النجاة من البر إلى البحر ، أو أجنحة كما جاء في بعض الأساطير الإغريقية، وإنما له أذنين كبيرتين وصبور ما فوق العادة، كائن استفادت شعوب الدنيا من خدماته، ألا وهو سيدنا الحمار. أقول”سيدنا الحمار”، لأنه كان أذكى من سيدي بوحمارة الذي كتب عنه المؤرخون المغاربة، حتى الثمالة، كأنه المهدي المنتظر . فأستاذ السيكولوجيا والتحليل النفسي جاك لاكان، الذي طور نظرية سيغموند فرويد، فأسس مدرسة باريس للتحليل النفسي، كان يكن احتراما مفرطا لهذا الحيوان الخدوم والصامت ، حيث أصدر مجلة علمية سماها ”الحمار” ، تقديرا له. هذا البروفيسور المتنور الذي كان يعرف قيمة الكلام، لسبر أغوار اللاشعور عند الجنس البشري، كان يحث تلامذته (دكاترة المستقبل) على تقليد الحمار في الإقلال من الثرثرة  والإفراط في الاستماع للكلام المحموم المنبعث من دواخل مرضاهم ، وزبنائهم الراغبين في العلاج النفسي .

“الطبيب الثرثار لا يصلح البتة للتحليل النفسي”، هذه هي أهم الاستنتاجات التي أتت بها المدرسة اللاكانية . وبما أني كنت من القراء المواظبين لهذه المجلة القيمة ، ذكرني الإيحاء السردي بمضامينها . فقلت في نفسي : ”هذا القلم يصلح لصحافتنا . إن عهد حمام السلام قد ولى ”. هكذا   كان تخميني، ومن حسن حضي، لم يخطئ حدسي ولم أغلط في تنبؤاتي، كما حصل مع مواهب وأسماء أخرى ، لا فائدة من ذكرهم. كانوا نكرة ثم صاروا ”نجوم”، ولو أن سماءنا القاحلة ما فيها إلا النجوم المنطفئة. إن جلهم تنكروا للخير، مصداقا للقولة الشعرية البليغة : ” إذا انت اكرمت الكريم ملكته وان انت اكرمت اللئيم تمردا”.

فمن مكر الصدف ، وبعد أن تيسرت الأمور عند نيني وبدأ يحصد   الأرباح ، أسس شركته الخاصة بالتوزيع ، ولم يختار عنوانا لمقرها سوى مقر الجريدة التي دخلناها ، ذات يوم ،   انأ وهو، طالبين ضيف الله.

لازلت أتذكر تفاصيل هذه القصة ، من ألفها إلى يائها . فبدون أن أقدم له نفسي أو أعطيه اسمي، طلبت منه أن يرافقني ، دون أن أحدد الوجهة . عندما اقتربنا من مسرح محمد الخامس سألني: ” فين غادي بيا؟” . “غادي بيك لدوزيام. مالك قاتل روح” . جوابي هذا الممزوج بالسيسبانس والهزل أزعجه بعض الشيء . لحظة ، اعتقدت أنه سيلوذ بالفرار. لكن حينما أخدنا المنعرج المؤدي إلى جريدة العلم ، بدأت ملامح الانشراح تغمر وجهه ، لتمحي علامات الاستفهام و الخوف والتوجس . قدمته للكاريكاتريست العربي الصبان، الذي كانت تربطني به صداقة قديمة، وكذلك لأنني كنت أعرف أنه هو المفتاح ، لكي يطأ نيني ذاك الزمان قدميه في أقدم جريدة بالمغرب و يترك بصمته الخالدة فيها، نظرا للمكانة الخاصة التي كان يحظى بها الصبان بين مكونات الطاقم التحريري، من المدير إلى   مصفف الحروف . رحب بالكاتب الشاب . تركته معه لأنصرف لحالي ، لأن مهمتي كناقد فني وكمكتشف للمواهب انتهت. وعلى الجريدة أن تقوم بدورها ،كما فعلت سابقا مع كتاب مغاربة آخرين. مع الأسف ، الكل تغير اليوم ، من السيئ إلى السوء. أين سنجد أمثال عبدالجبار السحيمي ، وعبدالكريم غلاب ، وعزيز لحبابي، وعلي يعتة ؟ على ذكر هذا الأخير ، أريد التنويه بما قام به اتجاهي . فحينما كنت أتعاون مع جريدة البيان، كناقد سينمائي ، ولأول مرة في تاريخ هذه الجريدة التقدمية ، صار ”فريلانس” (freelance)  لا منتمي للحزب ، يمثل الجريدة في التظاهرات والملتقيات الثقافية . كانت استمارات الاعتماد الصحفي توقع من طرف “يعتة وما أدراك ما يعتة” . لا زلت أتذكر العبارات المدوية التي نطق بها أمامي وأمام محمد فرحات و ابنه ندير يعتة : وهو يسلمني رسالة الاعتماد الموجهة لمدير مهرجان السينما الافريقية ب خريبكة : ” أنت تمثل البيان و إن اعتدى عليك أي عنصر متسلط ستسمع اسمك في البرلمان “. قال هذا الكلام المثير ، لأنه كان يعلم أن تمثيل جريدة تقدمية ، لها تاريخ حافل بالمحاكمات وعقوبات الحجز ، في ملتقى دولي محفوف بالمخاطر، مع العلم أن في تلك الفترة كان رئيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل النقابي نوبير الأموي قابعا في السجن، وجريدة البيان كانت ملتزمة ، أكثر مما هي عليه الآن ، بقضايا المضطهدين   والمحرومين ، من أبناء هذا الوطن .

لنعد ل رشيد نيني و بداياته . ذات يوم كنت متوجها لمحطة القطار، إذا بي أسمع صوتا يناديني باسمي. التفت فوجدت رشيد نيني، بابتسامته الماكرة. طلب مني أن أساهم معه بمقالات صحفية لإتمام مواد أول مشروع إعلامي له سماه ”أوال ”، (المخالف تماما عن الثاني الذي أصدره فيما بعد في حلة جديدة)، وهذه التسمية تعني الكلام بالأمازيغية . كان همه الوحيد هو الحصول على تأشيرة الدخول إلى اسبانيا كمدير جريدة ، للمشاركة في مؤتمر يهم هذه اللهجة العريقة ، بعدما تعذر له إتيان ذلك عن طريق الجريدة التي كان يتعاون معها بانتظام وبحماس . لم تتفهم الإدارة هذا الأمر، كما حصل لي شخصيا مع جريدة “البيان” و “ماروك هيبدو” . وكان غلطا فادحا . جراء ذلك ستندم فيما بعد على هذا التجاهل الذي يولد الجحود والجفاء . هكذا وجد نيني الحل بذكاء ، للوصول إلى المبتغى. واعتقد أنه صرف كل مدخراته المتواضعة من أجل إصدار الأعداد الأولى، التي صدرت في ازدواجية للغة . في تلك الفترة كانت مقالاتي بالفرنسية أكثر غزارة من العربية. لم يطلب رشيد منى السبق أو الكتابة في موضوع محدد ، لأنه راهن على الزمن. اكتفى بمقالات نشرتها سابقا في جرائد أخرى ك “ليبراسيون” و”الرأي” و”البيان” . هكذا بدأت مغامرة رشيد نيني في مجال الإعلام. والبقية يعرفها بعمق العربي الصبان الذي لم يخيب الآمال، و الكاتب الصحافي مصطفى حيران الذي غاب عن الأنظار فجأة، مباشرة بعد توقف موقعه الجريء والقيم “أخبر كوم” . نتمنى أن يكون على وافر الصحة والعافية. كما نتمنى أن تعود مياه الصلح والوئام إلى مجاريها ، لأن نجاح نيني فهو أيضا نجاح لمن عبدوا له طريق البدايات ، وفسحوا له مجال التعبير، والأفق . وسيظل التاريخ شاهدا على ذلك، أحب من أحب، و كره من كره. وما نحن في هذا الوجود إلا لنقل كلمتنا ونمر، أكنا ننعم في غنى فاحش أو نعاني من فقر مدقع . و إن سألني أحد أيهما أفضل : نيني البارحة آو نيني اليوم؟ اختار بكل عفوية نيني “كورساكوف”، و”تيغسالين”، لأن عموده الصحفي المعتاد، كان مرآة صادقة ، تعكس بجرأة نادرة وشجاعة متناهية ، ما يدور في المجتمع المغربي، وكان محرره الموهوب أكثر تضامن مع المظلومين والمنسيين .

 

 مؤسس الجائزة الدولية للفن الساخر

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد