كاظم الشويلي –
لا يكتب القاص والروائي المبدع صالح جبار خلفاوي قصصه لأجل رغبة عابرة أو متعة زائلة ، أنما يكتب لأجل هدف سام و إيصال رسالة إلى اوسع مساحة من المتلقين ، ومن الممكن أن نقرأ بعضا من أفكاره وتطلعاته من خلال مطالعتنا لقصة (الجرس)..
ان فكرة القصة تدور حول الفواجع والأرزاء التي ارتكبها الإرهاب ضد أبناء بلدنا ، هاهو القاص المبدع صالح جبار يتقمص شخصية مواطن كادح فقير يعمل ( جايجي ) ، ينقل لنا بسرد محكم ولغة رصينة همومه ومعاناته وبحثه عن رزق كفيف يملى المعدة الخاوية ويهرب من قرصات الجوع ، و يعرض لنا القاص شخصية بطل القصة وهو يتمنى الموت والخلاص من عذابات الفقر والخوف والإذلال والشيخوخة التي ترهق الكبير ، لقد استطاع القاص وببراعة ان يصور لنا نموذجا للطبقة الكادحة المترهلة بكل المعاناة ، نطالع : ( سرت نحو باب المنزل الموصد باستمرار .. للتأكد بأن جميع إفراد أسرتي لم يغادروا الدار فقد كنت أخشى عليهم , من هول الانفجارات المتلاحقة بتواصل مفزع ..ربما لايترك لديهم فرصة للنجاة , فنحن نعيش حياة من نوع أخر …عدت ثانية , حيث رائحة القهوة والشاي المعطر .. لطالما كنت اسمع كلمات الثناء والمديح على الشاي الذي اصنعه , استلم الإكراميات الصغيرة , لأجل ذلك , فأقوم بإخفائها في جيب سري لسروالي الأسود … لأني أعي أن زوجتي ستبحث في ملابسي, لتأخذ ما ادخرته .. وهي تصرخ : ( لم يعد الراتب يكفي .. لأن الدروس الخصوصية وأسعار الوقود .. تمتص المعاش) انتبهت للجرس المثبت على الجدار الأصم إمامي يرن … نهضت بلا اكتراث , تحركت مفاصلي , شعرت بها تتحرك وحدها في الفضاء بدون نقطة ارتكاز … والبلاطات تتمطى مثل بالونه منفوخة .. حاولت مد يدي نحو الباب المتراخي بإهمال واصل إلى الرتاج الذي يحمل بصمات الهدوء … دفعته , لم يصر منذ أن دهنته في الشتاء الماضي ,خفت صوته .. لكني أحس بصريره يصدر من مفاصلي الموجوعة .. ) . لقد استطاع القاص ان يرسم بكلماته المتينة لوحة من البؤس وطلبات العائلة ولم ينس ان يقارن بين صرير الباب وصرير المفاصل ، وكأن هذا النموذج من الطبقة الكادحة قد كتب عليها المعاناة والقسوة ، نطالع السرد المتقن والحبكة المنسجمة : ( أمور العمل لم تعد كما كانت في السابق , شحت الإكراميات , و البعض يعاملني بخشونة ما جعلني امتعض من أساليب المحيطين بي .. كنت اخفي اضطرابي وراء منظر وقور بسحنتي الداكنة .. نهرني صاحب العمل بشدة , تمنيت لو أنفذ بجلدي المسلوخ من الزاوية إلى غير رجعة , لااستطيع فعل ذلك, وخلفي( كوم لحم …) كما تردد زوجتي دائما … في الخارج صوت الرصاص يسمع بوضوح , تطلعت من النافذة , الناس يهربون بفزع موجع , جثة ملقاة على الجانب الأخر من الشارع .. شعرت بالخوف , أحسست بقرب نهايتي … مرة أخرى رن الجرس … ) . وبلغت الأحداث ذروتها ، وكأن الأقدار لم تكتف ان تصب غضبها على هذه الشريحة المعدمة ، بل ان الإرهاب كان العامل الأخر المنغص لحياة هذه الطبقة الكادحة ، لم تنته معاناة هذا الإنسان المعذب عند هذا القدر من مستويات العوز وهواجس الخوف والذلة من قبل مرؤوسيه بل ختمها في انفجار لعين جعلت الروح تحتضر ، وكأن القاص يشير ألينا ان هذه الطبقة الكادحة تتأرجح بين الحياة والموت ، نقرأ السرد البديع في تصوير لحظات احتضار الروح وسكوت النبض ومشاهداتها الأخيرة قبل مفارقتها الحياة : ( ازت بالقرب من راسي رصاصة , سمعت احدهم يصرخ بي , كان مختبئا خلف برميل القمامة … بعدها اهتز المكان بدويا مخيفا استلقيت على ظهري المحدودب الشقوق تخترق جلدي الممزق … لم اشعر بألم مفاصلي بحثت بأصابع مرتجفة , عن مساماتي التي أودعتها تحت الملابس , لم اعثر عليها , ارتدت يدي , تحمل سائلا لزجا , بلون الدم .. حل الظلام في عيني , سكن النبض في جسدي , سمعت أصوات أبواق متلاحقة .. شعرت كأني أطير بخفة عجيبة … تسألت : هل أحلم … حاولت فتح أحداقي .. لمحت نورا يأتيني من فوق جسدي المسجى , يلسع عيوني أعدت اغماظها … سمعت صوت باب يفتح , وهمهمات لم افهمها … عاودت بعناد , فتح أجفاني المغلقة , شاهدت من وراء ضباب عيوني أناس يحملوني بتؤدة لمحت خلفهم سيارة إسعاف… تساءلت مع نفسي : هل الجرس ما زال يرن .. ؟ دسست يدي في الجيب السري لبنطالي الأسود .. أتحسس نقودي ثم هدأت …
وبهذا السرد المتقن ارشف لنا القاص والروائي صالح جبار مرحلة عصيبة من تأريخ العراق الحديث ، والحق يقال ان هذه القصة القصيرة تتمتع بجمال السرد وعمق الموضوع وتعتبر من التحف الجميلة التي تسحر المتلقي وتشد ذهنه من السطور الاولى حتى نهايتها … فتحية للقاص القدير على هذا الانجاز الباهر والبديع ونشد على يديه ونبارك له إبداعاته المتميزة