الجمعية الدولية لأساتيذ الجامعات والأساتيذ المحاضرين (IAUPL) ثمانون عامًا من التاريخ والدبلوماسية الأكاديمية والريادة العالمية
بقلم: الدكتور محمد محاسن
بقلم: الدكتور محمد محاسن – أستاذ التعليم العالي، الرئيس بالنيابة ل IAUPL
ملخص المقال
أقدّم في هذا المقال مسحًا تاريخيًا شاملاً لدور الجمعية الدولية لأساتيذ الجامعات والأساتيذ المحاضرين (IAUPL) في صياغة الأسس الفكرية والتنظيمية لقيام منظمة اليونسكو منذ تأسيس الجمعية في لندن عام 1942، مستندًا إلى وثائق أرشيفية مرجعية تكشف إسهامات رائدة لعدد من الشخصيات الجامعية التي كانت في قلب التفكير التأسيسي للنظام التعليمي العالمي بعد الحرب. كما يتناول المقال الامتداد المعاصر لرسالة الجمعية من خلال قيادتها الحالية، التي تضم نخبة من الشخصيات الأكاديمية الدولية الرفيعة المستوى، والتي تواصل اليوم الدفاع عن الحرية الأكاديمية، والدبلوماسية الجامعية، وأخلاقيات التكنولوجيا المتقدمة.
الكلمات المفاتيح: الجمعية الدولية لأساتيذ الجامعات؛ الأساتيذ المحاضرون؛ IAUPL؛ اليونسكو؛ التاريخ الأكاديمي؛ الحرية الأكاديمية؛ الدبلوماسية الجامعية؛ القيادة الأكاديمية؛ العلوم الناشئة؛ التعددية؛ النزعة الإنسانية.
توطئة: احتفال مزدوج وإرث فريد
في سنة 2025، يحتفل العالم بثمانين عامًا على تأسيس منظمة اليونسكو، وفي الوقت ذاته بثمانين عامًا على تأسيس الجمعية الدولية لأساتيذ الجامعات والأساتيذ المحاضرين (IAUPL)، التي نشأت قبل اليونسكو بثلاث سنوات، في قلب لندن خلال الحرب العالمية الثانية.
تكشف الوثائق التاريخية اليوم أنّ IAUPL لم تكن مجرّد هيئة مهنية، بل كانت أحد المختبرات الفكرية الأولى التي أسهمت في بلورة التصوّر الأولي لمنظمة دولية تُعنى بالتربية والعلم والثقافة. وقد شاركت مباشرة في النقاشات التأسيسية التي ستقود لاحقًا إلى الإعلان عن اليونسكو في عام 1945.
أولًا: لندن 1942 – مولد رؤية عالمية في قلب المنفى
في عام 1942، كانت لندن مدينةً تحت القصف، ولكنها كانت أيضًا عاصمة الحرية والفكر بالنسبة لعلماء أوروبا الذين لجؤوا إليها هاربين من الاحتلال. وسط هذا المشهد، تأسست IAUPL على يد نخبة من الجامعيين الأوروبيين، أبرزهم:
– البروفيسور Stephan Glaserأول رئيس للجمعية (1942–1944)، وأحد العقول التي ساهمت في التفكير المؤسسي لما بعد الحرب.
– الشخصيات الجامعية المؤثرة المرتبطة بحكومات المنفى الأوروبية، إلى جانب مفكرين بريطانيين وفرنسيين.
وفقًا لدراسة المؤرخ Hans-Heinz Krill سنة 1968 (Die Gründung der UNESCO)، كانت IAUPL من أوائل الهيئات الدولية التي كُلِّفت بدراسة خطط إنشاء منظمة دولية للتربية، قبل ثلاث سنوات كاملة من مؤتمر لندن الذي أعلن رسميًا تأسيس اليونسكو.
ثانيًا: جذور إنسانية عميقة في التراث الجامعي الأوروبي
نشأت IAUPL محمّلة بروح إنسانية عميقة، قائمة على:
– الدفاع عن الحرية الأكاديمية،
– مقاومة الرقابة والتضييق الفكري،
– حماية استقلالية المعرفة،
– تعزيز التضامن بين الجامعيين عبر الحدود،
– اعتبار العلم والثقافة ركيزتين للسلام الدائم.
تظهر في محيطها الفكري المبكر أسماء تاريخية كبرى مثل:
– البروفيسور(René Cassin) – أحد محرري الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1968.
– الوزير النرويجي في (Nils Hjelmtveit).
– البروفيسور (Stephan Glaser) – الذي ربط بين الرؤية الأكاديمية وأهداف إعادة البناء الثقافي لأوروبا.
هذه الشخصيات جسّدت الأسس الأخلاقية التي ستصبح لاحقًا جوهر الفلسفة التأسيسية لمنظمة اليونسكو.
ثالثًا IAUPL واليونسكو – شراكة تأسيسية ووحدة مصير
حين وُقّع دستور اليونسكو في نوفمبر 1945، كانت العديد من أفكاره الأساسية قد نضجت بالفعل خلال النقاشات التي شارك فيها علماء IAUPL ما بين 1942 و1944.
تتميّز IAUPL في هذا السياق بخصوصية تاريخية فريدة حيث إنها ليست مؤسسة ظهرت في مرحلة لاحقة، ولا كانت مجرّد شريك لاحق في المشهد الدولي، بل كانت من أوائل القوى الفكرية التي ساهمت في صياغة تصوّر اليونسكو قبل تأسيسها.
لذلك، فإنّ احتفال المنظمتين معًا بعامي التأسيس (1942–1945) ليس صدفة، بل هو تذكير بوحدة المنشأ والرسالة.
رابعًا: IAUPL اليوم – سلطة أخلاقية في زمن التحولات العالمية
في عالم يشهد تحولات عميقة تشمل: الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الكمية والتوترات الجيوسياسية والتهديدات الموجّهة للحرية الأكاديمية وتحديات النزاهة العلمية، تواصل IAUPL لعب دور الضمير الأكاديمي العالمي، وصوت الحكمة المستقل، والمرجع الأخلاقي في القضايا المتعلقة بمستقبل المعرفة.
ترتكز مهمتها المعاصرة على ثلاثة محاور:
- الدبلوماسية الجامعية الدولية عبر تسهيل التعاون بين كل من الجامعات والحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع العلمي العالمي.
- الدفاع الصارم عن الحرية الأكاديمية، حيث التأكيد على أن استقلال الفكر هو شرط السلام والتنمية.
- تأطير أخلاقيات التكنولوجيا الحديثة من خلال التعاون مع الأمم المتحدة واليونسكو لإرساء قواعد أخلاقية للذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الكمية والعلوم العصبية.
خامسًا: استمرارية الروح التأسيسية – من (Stephan Glaser) إلى قيادة IAUPL المعاصرة
لقد استطاعت IAUPL أن تحافظ على رسالتها عبر ثمانية عقود لأنها كانت دائمًا محاطة بقيادات أكاديمية من طراز رفيع، تجمع بين العمق العلمي والحكمة الأخلاقية. تضم قيادتها الحالية شخصيات مرموقة تمثّل الامتداد الطبيعي للجيل المؤسس:
– البروفيسور (Jean-Louis Charlet) – رئيس الجمعية، وأحد أبرز الوجوه في العلوم الإنسانية الأوروبية.
– البروفيسور (Michel Gay) – الأمين العام، بما يميّزه من دقة مؤسسية وحسّ تنظيمي رفيع.
– البروفيسور (Mohamed Mahassine) – نائب الرئيس، وصوت بارز في القيادة الأكاديمية والدبلوماسية الجامعية في الفضاءين المتوسطي والإفريقي.
– البروفيسور (Oleg Curbatov) – نائب الرئيس، ممثل المدرسة العلمية الأوراسية ورائد في التفكير العلمي المعاصر.
– البروفيسور (Pierre Dehombreux) – أمين المال، حارس الشفافية المؤسسية والاستقامة الإدارية.
هذه القيادة لا تمثل مجرد هياكل تنظيمية، بل امتدادًا حيًّا للضمير الإنساني الذي وُلد مع الجمعية في لندن 1942، وحارسًا أمينًا لرؤية جعلت من المعرفة أساسًا للسلام.
عود على بدء: ثمانون عامًا في خدمة الكرامة الإنسانية والعقل والمعرفة
من لندن 1942 إلى تحديات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي سنة 2025، تقف IAUPL كأحد الأعمدة الأخلاقية الراسخة في المشهد الدولي:
حارسةٌ للحرية الفكرية، شريكٌ طبيعي لليونيسكو، جسرٌ بين الشعوب عبر المعرفة، وصوتٌ إنساني في عالم يبحث عن معنى جديد للسلام.
ثمانون عامًا تؤكد أن المعرفة ليست ترفًا، بل شرطًا للسلام وركنًا أساسيًا لكرامة الإنسان