من أجل قيادة أكاديمية توافقية : نحو إعادة نظر في حكامة الجامعة المغربية لتحقيق تحول فعّال
بقلم الدكتور محمد محاسن
ريتاج بريس : بقلم الدكتور محمد محاسن
شهدت الجامعة المغربية، منذ الاستقلال إلى اليوم، العديد من الإصلاحات الهيكلية التي هدفت إلى تحديث منظومتها. غير أن معظم هذه الإصلاحات جاءت بمنطق عمودي، وتم تنفيذها بمشاركة محدودة وانتقائية من مكونات الجسد الجامعي. في هذا السياق، أدعو إلى تبني قيادة أكاديمية توافقية، باعتبارها استجابة عملية لتحديات الحكامة الناجعة، ومن أجل إرساء ثقافة إدارية جديدة تقوم على الإنصات، والإشراك، والتفاعل البنّاء دون إقصاء. الهدف هو بلوغ بناء مشترك للمشاريع وفق أهداف متقاسمة، بما يضمن انخراط الفاعلين وتملُّكَهم للإصلاحات ومساهمتهم الفعلية في إنجاحها.
- إصلاحات التعليم العالي في المغرب: تاريخ من التغيير الفوقي
منذ سنة 1956، عرف النظام الجامعي المغربي عدة موجات من الإصلاحات الكبرى. فبعد الاستقلال، كان الهدف الأساس يتمثل في “مغربة” الجامعة شكلاً ومضمونًا، في إطار إعادة بناء جامعة وطنية. وعلى امتداد العقود اللاحقة، اتسعت رقعة التعليم العالي بشكل سريع، دون مواكبة حقيقية لهذا التوسع على مستوى الجودة والحكامة والتوجيه.
وقد شكّل الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1) محاولة طموحة لإعادة هيكلة المنظومة، حيث تم إدخال نظام الإجازة-الماستر-الدكتوراه (LMD) سنة 2003. غير أن هذه الإصلاحات اعتُبرت، في كثير من الأوساط، مستنسَخة من نماذج أجنبية، وتم تنزيلها دون إشراك فعلي للفاعلين المعنيين.
ثم مؤخرًا، جاء ميثاق التعليم العالي والبحث العلمي 2030، في إطار القانون الإطار 51.17 ، ليقترح توجهات استراتيجية جديدة قائمة على الابتكار والجودة والشمول (القانون الإطار، (2). إلا أن تفعيل هذه التوجهات لا زال يتم بنفس المنهج الفوقي، مع غياب حقيقي لثقافة المشاركة والتشارك.
لقد سبق لنا -في عمل جماعي شاركتُ فيه إلى جانب زملاء من أزيد من أحد عشر بلدًا- (3) أن أبرزنا أن النموذج المركزي المفرط، الذي يهمّش الفاعلين الداخليين، غالبًا ما يكون عائقًا بنيويًا أمام أي إصلاح فعّال.
- التوافق كمدخل لحكامة جامعة محفزة وشاملة
يقوم مبدأ التوافق (القبول الجماعي – le consentement) على أن اتخاذ القرار لا يقتصر على مجرد استشارة شكلية، ولا يتم من خلال فرض القرار عبر تجييش اللوبيات الموالية بشكل أعمى للإدارة، بل يعتمد على قبول جماعي في غياب اعتراضات جوهرية. هذا المفهوم، الذي تدافع عنه نماذج مثل السوسيوقراطية أو ما يُعرف بالحكامة الديناميكية، يستند إلى قيم الشفافية، والإنصات الفعال، والبناء المشترك، والمسؤولية المتقاسمة.
انطلاقًا من أطروحتي حول نماذج الحكامة الممكنة لجامعة مغربية متجددة (4)، فإن تطبيق هذا النموذج داخل الجامعة المغربية قد يُحدث تحولًا نوعيًا في تجاوز العديد من المعيقات التي تعرقل تطورها، وذلك عبر:
* تعزيز تملك الفاعلين لمشاريع مؤسساتهم؛
* الحد من مقاومة الإصلاحات؛
* تعبئة الكفاءات الداخلية بشكل أفضل؛
* تقوية مشروعية القرارات الجامعية.
على اعتبار أن الآخر، وأقصد الركائز الثلاث للجامعة من أساتيذ باحثين وطلبة وإداريين إنما ينخرطون في العمل الجاد من أجل بلوغ الأهداف عندما يشاركون في بلورتها ويحسون بالاعتراف بالدور المحوري الذي يلعبونه داخل المنظومة التي ينتمون إليها.
إن الأمثلة على مستوى الدول الأكثر تقدما، وخاصة هولندا وكنظا، تظهر أن النُّظم القائمة على التوافق والتشارك تيسر وتعزز فعالية الجامعات وترفع من قدرتها على مواجهة التحديات والصمود أمام الأزمات.
- آليات التفعيل في السياق الوطني
لتحقيق قيادة توافقية حقيقية، لا بد من إدخال تحولات تنظيمية عميقة تشمل:
* إنشاء مجالس تشاركية موسعة تضم كافة فئات الفاعلين الأكاديميين والإداريين؛
* تكوين المسؤولين في مجالات الحكامة التشاركية، والوساطة، وقيادة التغيير؛
* صياغة مشاريع المؤسسات عبر ورشات تشخيص تشاركي؛
* تفعيل أدوات رقمية للتشاور، واقتراح الحلول، وتتبع القرارات؛
* ترسيخ ثقافة الشفافية من خلال الإعلان عن المعايير، وتوفير آليات التحكيم والتقييم الدوري للمبادرات.
هذه الاستراتيجية تتطلب حتماً إرادة سياسية واضحة، وموارد داعمة، وإطارًا زمنيًا مناسبًا، لكنها تمثل بديلاً جدّيًا وواعدًا لتجاوز محدودية الإصلاحات الفوقية، واستعادة ثقة الفاعلين داخل الجامعة المغربية مع التأكيد على أن إسناد مهام القيادة ليس مجرد ترقية بل هو مسؤولية جسيمة وأمانة تلقى على عاتق الأوصياء على القطاع وجامعاته ومؤسساته.
إن الجامعة المغربية تقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم. فبعد عقود من الإصلاحات المتتالية، بات من الضروري الانتقال من منطق التسيير الهرمي إلى منطق القيادة التشاركية. ويُعَدّ التوافق، كمنهجية في اتخاذ القرار، حجر الزاوية في هذا الانتقال، لما يتيحه من إمكانية إرساء قيم الحوار، والاحترام، والمشاركة، والبناء المشترك.
إن جامعة تُسيَّر من خلال فاعليها، وبمشاركتهم، وحدها القادرة على الاستجابة لتحديات القرن الحادي والعشرين، علميًا، واجتماعيًا، واقتصاديًا، وبشكل مستدام وفعال.
____________________________
(1) اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين. (2000). الميثاق الوطني للتربية والتكوين. الرباط: منشورات رسمية.
(2) وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي. (2019). القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي. الرباط: منشورات الأمانة العامة للحكومة.
(3) Gay, M., Mahassine, M., & Curbatov, O. (2017). Regards dynamiques et critiques sur la gouvernance des universités. Éditions IAUPL.
(4) Mahassine, M. (2020). L’université marocaine au-delà de 2030 : Quel modèle de