“مدونة الأسرة”: بين المصلحة والمفسدة!

بقلم: الإعلامية زكية حادوش

بقلم: الإعلامية زكية حادوش

رسائل تأخرت عن موعدها

ما ذنبنا حتى نجد نفسنا على رأس كل عقد أو عقدين نتناطح و”نتصاطح” بشأن إشكالية مصطنعة، تتحول فيها الحبة إلى قبة “غير محترمة” بتاتا؟!

كل مرة، أحنث بقسمي، وأدخل في ذلك السجال الذي أعلم جيدا أنه مصطنع، وأخوض رغما عني في إشكالية أعرف منذ زمان أنها مفتعلة وعقيمة، وجديرة بالتجاهل والتغافل. عفا الله عني من هذه البلية، وشر البلية ما يضحك!

أخيرا، أتصفح “شاشاتي الذكية” ولا أجد سوى “المدونة”…أخرج لشراء اللوازم التي لولاها ما خرجت فأسمع الناس في الشارع يتحدثون عن “المدونة”، ونحن المغاربة، كما تعلمون، نحب كثرة الحديث واللغو والكلام في كل شيء ولا شيء. أينما هربت تطاردني هذه “المدونة”. إذن، للتخلص منها بصفة نهائية، دعني أكتب عنها وينتهي الأمر!

أبدأ بالفرقاء في هذا “الجدل” حامي الوطيس…في مقدمة الصفوف، صفوف الفتّانين أو المفتونين بالمدونة وتعديلاتها، نجد طلائع بضعة “نسوانيات” نفضن الغبار عن بذلتهن السبعينية أو الثمانينية، وتجملن بأحمر شفاه “بوس لا تخف” الغني عن التعريف وتقمصن دور “روزا لوكسمبورغ”. على ميمنتهن وقف بعض الكهول من فناني القانون، المبدعين في نقطه وفواصله، وعلى ميسرتهن جلس شيوخ عاصروا ثلاثة ملوك ومازال فيهم شيء من حتى!

في الجانب الآخر من الملعب، اصطف لاعبو “الإسلام السياسي” الذين اجتهدوا في غسل الأدران التي كست جُبَّتهم بفعل مشاركتهم في “محكومتين” متتاليتين أكلنا فيها ما أكل الطبل يوم العيد؛ وفي صفوفهم من لم يدخلوا تلك التجربة ومع ذلك أصابتهم شظاياها وظلوا مع كل تعبير عن موقف يتبرؤون من الفريق الأول، رغم أنهم على ملة واحدة.

ثم هناك الآخرون، المضحكون فعلا، فقهاء اليوتوب والتيكتوك، الذين وجدوها فرصة للرجوع إلى الواجهة وحصد “الأدسندس” بخطب نارية موجهة خصيصا للدهماء ولمتابعيهم من القاصرين (الذين لن يبلغوا الرشد أبدا إن ظلوا على متابعتهم و”جمجمتهم”). فعلا، أمتعتني “فيديوهات” هؤلاء، ممن هنأ الرجال بالعزوبة والنساء “بالعنوسة”، أو تأسف “للتضييق على الرجال” من الختان إلى اللحد لتمتيع “النساء” بحقوق ليست لهن، بحكم جنسهن!

أنظري ما فعلتيه أيتها “المدونة الجديدة” بشيوخنا “الأجلاء”، بمفهوم الجلاء والخلاء الذي أتمنى أن يعودوا إليه ويعفونا من “صداعهم”! فالمدونة الجديدة لم تخرج إلى الوجود بعد، وكل تلك القصص المهولة عمن ألغى زواجه أو أقدم على الطلاق أو فقد متاعه بسبب تعديلات المدونة مجرد أكاذيب وإشاعات وسيناريوهات كارثية ينشرها من في قلوبهم مرض وزادهم الله مرضا، أو في عصاهم غرض أو أغراض أخرى!

عودوا إلى كهوفكم رحمكم الله! لأن من مازال يستعمل كلمة “العانس” و”العاقر” و”القاصر” قاصدا بها الأنثى دون الذكر، و”الإصابة بالعقم” و”بمرض مانع من المعاشرة الزوجية” كمبرر للتعدد يعيش في كهف، ومن يخاف من كلمة “الرشد” و”الوصية” و”المساواة في الحقوق والواجبات” و”الحرية والمسؤولية” ويعوضها بكلمات من قبيل “البلوغ” و”الهبة قيد الحياة” و”القوامة” و”ولي الأمر” و”الفراش”، تعشعش في عقله الرتيلاء لاريب!

أما من لبسن أطقمهن “الذكورية” بالمناسبة، فأطلب منهن فقط أن يتوقفن عن التقليد…تقليد “الرجال”، تقليد “الآخر” المستعمر والمهيمن، تقليد النضال بدل النضال الحقيقي. فالنسخة المقلدة تكون دائما ممسوخة. إما أن تكون مناضلا أو لا تكون! ليس هناك في هاته الحالة منزلة بين المنزلتين!

لزعيمتهم الملتحفة بالأحمر قصد التمويه، أقول، بما أنك لست “روزا لوكسمبورغ” ولا “تشي غيفارا”، خذي دروسا مكثفة في اللغة العربية (لأنك تنكرت لأصلك الأمازيغي) بغية تفادي تكرار رفع الجار ونصب المجرور أمام “بر الأمان”. ولرفيقتها التي نصبت نفسها “قاطعة للأرزاق” مكان الخالق سبحانه، أقول وأؤكد مرة أخرى “كلنا أبناء هذا الوطن”، شئت أم أبيت، وبدل من الدعوة إلى تربيتنا على حقوق الإنسان، ربي نفسك أولا على احترام الإنسان وتكريمه كما كرمه الله عوض السعي إلى تحقيره وما تحقرين إلا نفسك!

لقائد جوقة المدافعين عن الملة والدين في نقاش “المدونة”، المتمترس وراء الشاشية المخزنية وجلباب السلف، أقول إنه من المروق أن تفتي فيما ليس لك به علم! الرجوع لله، ليس في الأمر حرج أن تذهب إلى جوطية الرباط وتشتري الكتب والمخطوطات لتنكب عليها، بدل استلهام قاموس السوقية والشعبوية من الباعة المتجولين، ولهم كل الاحترام. ففي كتب ابن رشد الجد والحفيد، وابن قيم الجوزية، وحواشي العلامة المهدي الوزاني على شرح التحفة، و”معيار” أبي العباس الونشريسي، وفي القطر السوسي المتعلق بالكد والسعاية، وكذا اجتهادات العلماء والفقهاء المغاربة الأقحاح (عندما كانت جامعة القرويين بفاس منارة للعلم في العالم الإسلامي وليست مكانا للسياحة الترفيهية)، أمثال الشريف العلمي الحسيني، محمد بن ناصر، شهاب الدين الصنهاجي القرافي، عبد الباقي الزرقاني، الشيخ العدوي، الخرشي، أبي عبد الله محمد بن يوسف الشهير بالمواق، أحمد الرهوني، أبي الحسن التسولي، المختار السوسي الإلغي، علال الفاسي، عبد الله كنون، عبد السلام حادوش، أحمد الخمليشي، وغيرهم كثيرون من العلماء والفقهاء المالكيين في المغرب الأقصى يتعذر استحضارهم كلهم في هذا الحيز، علما أني استثنيت عمدا علماء وفقهاء مقاصديين مغاربة لأنهم أخذوا العلم عن شيوخ الشافعية بالأزهر في أرض الكنانة، أو اجتهدوا من خارج المذهب وهذا لا ينتقص لا من قيمتهم العلمية الكبيرة ولا من صلاح وصواب اجتهادهم. على سبيل المثال لا الحصر، أذكر العلامة عبد العزيز بن الصديق الذي أدلى بدلوه في باب مقاصد الزواج التي حصرها في مقصدين فقط: الإحصان والعفاف ثم الزوجة الصالحة. أما مقصد النسل (أي التوالد) فاعتبره عرضيا ليس إلا.

أرجوك، سيدي الصدر الأعظم الأسبق، لا تذهب هذه المرة لحضور المزاد العلني للزرابي الرباطية (رغم أنها تراث قيم نفتخر به ونحافظ عليه) ولا لشراء الثريات لتعليقها في البيت كالزوجة، ولكن للبحث عن مخطوطات فقد فيها سلفنا الصالح نور أعينهم لتحقيقها، وتأليف الحواشي حولها، والاشتغال عليها على ضوء الشموع والمصابيح، بعد نهار قضوه في العمل، أو في إمامة الناس أو تعليمهم أو القضاء بينهم، اقتطعوه قطعا من وقت زوجاتهم وأولادهم، لكي يورثوننا إياها كعلم ينتفع به، ويجتهدوا اجتهادا نلجأ إليه كلما اختلطت علينا الأمور والتبست علينا النوازل!

خلاصة القول، “يجب للزوجة – بعد الفراق بطلاق أو وفاة – نصيبها فيما تم اكتسابه خلال فترة الحياة الزوجية بقدر عملها، ما لم يقع التراضي بين الطرفين على نسبة معينة” وفقا لما يعرف شرعا ب “الكد والسعاية” لدى علماء المذهب المالكي، المغربي، ومن ضمنهم والدي أستمطر عليه منه تعالى العفو والغفران والرحمة. ولا أسبقية لوارث على من أنتج الإرث! ” فهمتني و لا؟”.

هي مراجعات فحسب لمقتضيات “مدونة الأسرة”، أمر بها ملك البلاد، وليست تراجعات عن مكتسبات يمكن إدراجها في سجل التراجعات الذي دشناه والحمد لله منذ عقد ونيف! فافهمني يا سيدي كما تطلب منا كل لحظة وحين أن نفهمك!

أخيرا، دعونا الآن نمر إلى ما هو أهم: أم الإشكاليات أو الإشكالية الحقيقية في هذا البلد، أي تقسيم الثروة إنتاجا واستهلاكا وبالتالي توزيع السلطة! وشكرا لكم على إلهائنا بثنائيات مصطنعة كلما أحسستم بمللنا!

هوامش:

  • رأيي الشخصي جدا: أقترح تضمين “المدونة” في قانون الالتزامات والعقود طبقا للمبدأ القاضي بأن العقد شريعة المتعاقدين، وتوحيد ومركزة توثيق عقود الزواج، فمن العار أن يكون للعقار في بلادنا منظومة توثيق 3.0 بخوادم مركزية غاية في التطور وللبشر “كاغيط” يعود إلى عهد “ليوطي”.
  • ملحوظة شخصية جدا أيضا: لاحظوا أني حاولت قدر الإمكان ألا أستخدم عبارة “مدونة الأسرة”، لأن المفروض في تلك القوانين أن تنظم “التساكن” بين أفراد تحت سقف واحد، سواء تعلق الأمر بزوجين وحدهما، أو بزوجين معهما أطفال أو أهل. حيث أنه في المجتمعات المغربية، يتعايش واقع الأسرة النووية على النمط الغربي مع عقلية القبيلة والعشيرة والأهل (وفقا للعُرْف الذي يعتبر ذا شجون بالنظر إلى أهميته كقاعدة فقهية وقانونية)، المتدخلة من قريب أو بعيد في ذلك الزواج، وهذا سبب لا يستهان به من أسباب العزوف عن الارتباط وفسخ الارتباط أيضا. لذلك، فقوانين ما يسمى “الأسرة”، في نظري المتواضع، يمكن أن يطلق عليها “قوانين التساكن” لأن الهدف في نهاية المطاف هو “السكن إلى الآخر” (“ومن آيته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”. سورة الروم-الآية 21) …أو على الأقل “السكن مع الآخر”، وذلك أضعف الإيمان.
  • “النساء شقائق الرجال في الأحكام” (حديث شريف).
  • “كل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت في الشريعة بالتأويل.” (الإمام ابن قيم: إعلام الموقعين).

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد