بقلم الإعلامية زكية حادوش
قد تكونون مثلي، ربع قرن من حياتكم مر هكذا وأنتم تدرسون، قليلا أو كثيرا، وتشتغلون وتكونون أسرة وتركضون كل يوم في هذه البلاد السعيدة وراء لقمة عيش كريمة ركض الكلاب (والكلام هنا مدح وليس ذما، فوفاء الكلاب لا يبزه وفاء) … ربما لم تمضوا ربع قرن من حياتكم في اللهو واللعب، لأن الحياة الدنيا تعب وشقاء، وبين هذا وذاك لحظات “سعيدة” تصنعها الأشياء الصغيرة، وأحزان مرتبطة أساسا بفقد من نحب، وآمال بسعة الحرية تجعلنا نستمر في استنشاق الهواء.
ربع قرن مر، وربما لم نجد في هذا الخضم المحتدم مجالا لتقييم الحاصل وللجلوس بهدوء مع الذات ومع حكمائنا لتشخيص حالة الوطن، شعبا وحاكما؛ بنقط قوتنا ومكامن ضعفنا، وتبادل الآراء بكل أريحية واقتراح ما جادت به قريحة المجربين والخبراء والعلماء العقلاء منا، دون ذلك التوتر الذي لازمنا كمتلازمة اضطراب ما بعد الصدمة، كضحايا لم يخرجوا بعد من سنوات الجمر والرصاص.
بما أن المناسبة شرط، كما يقول الفقهاء منا، لا شك أني استحضرت هذا كله وأنا أتابع الخطاب الملكي الخاص بعيد العرش الخامس بعد العشرين. ولا شك أني حاولت أن أقرأه على ضوء الواقع المغربي، دون زيادة ولا نقصان. حاولت قدر الإمكان التجرد من الذاتية المرتبطة بنفسيتي وتجربتي الشخصية ومن كل آليات تحليل الخطاب غير اللفظي التي لا يمكن تطبيقها في هذه الحالة. ووجدت نفسي عاجزة لأن ذاكرتي الخبيثة تصر على حملي إلى أواخر يوليوز 1999، ذلك اليوم الصيفي الذي استدعي فيه العزيز “مولاي أحمد عراقي” تغمده الله برحمته الواسعة على عجل لتوقيع “عقد البيعة” كعضو في الحكومة المغربية. تحملني ذاكرتي إلى الصيف الذي يليه، حيث اشتغلنا كالمجانين لعقد “المجلس الوطني للبيئة” لتمرير آخر خطاب لنا قبل الرحيل عن مؤسسة حكومية كان يطلق عليها زملاؤها في الحكومة “المنظمة غير الحكومية التابعة لنا”. تسرح بي تلك الذاكرة الملعونة في ردهات “الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري” ودهشة البدايات، والعمل الدؤوب في إطار اعتبار هذه المؤسسة أداة من أدوات “الانتقال الديممقراطي”، ثم منعطف الاستفتاء على دستور 2011، وأخيرا “التجرجير” في المحاكم…
إذن، كفى من تقليب المواجع ومن هذه “الترهات” التي تبعدني عن الموضوعية، وعودة على بدء، أقول إنه بعد مرور ربع قرن على أحلامنا العادية والمشروعة في غد أفضل، يأتي الخطاب الملكي ليدق ناقوس الخطر، حول إشكالية انكب عليها قطاع البيئة مند ربع قرن، سماها بما يجب أن تسمى به وشخص حالتها ووضع لها توقعات علمية على مدار أكثر من قرن، بل واقترح إجراءات استراتيجية وتقنية للتخفيف من حدتها؛ ألا وهي إشكالية “التغيرات المناخية”، وليس ما كان يطلق عليه فرقاؤنا الوطنيون آنذاك “جفافا” و”ندرة مائية” و”فيضانات” وغيرها من المصطلحات الدارجة اليوم التي ما هي سوى أعراض الإشكالية الأم. وكما تعلمون، إذا أصررنا على معالجة الأعراض بدل الداء، فلن يستمر الداء إلا في الاستفحال. والفاهم يفهم، لأن المجال هنا لا يسمح بالغوص في مجال مصيري وحيوي بحجم “التغيرات المناخية” وآثارها على بلد هش مناخيا مثل بلدنا.
الإشارة الأخرى، خارج الخطاب، التي تثير الانتباه وأثارت الفرح لدى الجسم الصحافي والإعلامي، هو العفو الملكي، من ضمن 2476 معتقل أو موجود في حالة سراح أو محكوم أو مستفيد من برنامج “مصالحة”، عن صحافيين ونشطاء ومعتقلي رأي من بينهم زملائي السابقون توفيق بوعشرين، سليمان الريسوني وعمر الراضي وعفاف برناني وعماد استيتو، ونشطاء كرضا الطاوجني ويوسف الحيرش وسعيدة العلمي و”مول القرطاسة”. هنيئا لمن شمله العفو ولأسرهم التي عانت الأمرين بسبب متابعات ومحاكمات أقل ما يقال عنها أنها كانت تفتقر لبعض شروط المحاكمة العادلة، بل فتحت النار على المغرب ليضرب فيه من يضرب من المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وحرية الإعلام. أستسمح من لم أذكر اسمه هنا راجية أن تكون هذه مجرد دفعة أولى من دفعات عفو قادمة، فشهر غشت يتضمن مناسبتين وطنيتين وفي السجون يقبع سجناء آخرون يمكن إدراجهم في لائحة المتابعات الجائرة، أمثال “شيخ المحامين” محمد زيان والقاضية المتقاعدة ضحية “مافيا العقار”، وضحايا “السيبة الأمنية” من نشطاء حراك الريف، وغيرهم الذين ابتغوها “سلمية” لكن الأجهزة المعلومة ارتأت غير ذلك.
نعم، كنا بأمس الحاجة لانفراج من هذا القبيل وما زلنا نتوخى “التطبيع”، أي عودة الأمور إلى نصابها، العودة إلى زمن “العهد الجديد” حيث كان الإيمان قويا بعلاقة صحية تجمع الملك بشعبه، وبتصحيح أوضاع كارثية في مجال الحريات والحقوق ومحاربة الفساد والظلم نجمت عن عقود من الجمر والرصاص؛ وحيث كانت ثقة المجتمع المغربي في جميع مؤسساته، كل واحدة في حدود اختصاصاتها، على أهبة أن تتوثق، فاتحة آفاق الاستقرار والتنمية والسلم الحقيقية أمام وطننا، لولا أن حدث ما حدث…