صالح الخلفاوي يقدم في ‘توما هوك’ وجبة دسمة لعشاق السرد

أحمد إسماعيل زين – السعودية –
مند العتبة الأولى يأخذك الروائي صالح الخلفاوي فيها إلى بواطن الوجع: “عانيت الكثير”، ثم يمدك بجرعة من الفرح: “أقبل العيد”، لتجد نفسك منساقا رويدا رويدا دون شعور، للغوص بسلاسة في سلسة من المذكرات والمواقف المنوعة المروية لشخصياتها، بأسلوب آسر.
ليس هذا وحسب، بل أن هناك رموزا أسطورية، وأماكن تاريخية، وأسماء شخصية، وظفها الروائي بحرفية متقنة على لسان الشخصيات في الرواية، وحتى الجنس كان له حضورا دلاليا مغايرا عن معناه الحقيقي الظاهر في تطور الأحداث.
فقد استخدم الراوي ــ صالح الخلفاوي ــ الحبكة المفككة للرواية، معتمدا على سلسلة من الأحداث والمواقف المنفصلة، وجاذبا للقارئ ــ كما سبق وأسلفنا بالمقدمة ــ بطريقة العرض، وأسلوب السرد، وعفوية الشخصيات، والعناية بالبيئة، والاعتماد على شخصية رئيسة تجمع كل الخيوط في يدها.
وكذلك استخدم الحبكة المركبة بالاعتماد فيها على أكثر من حكاية، وقد نجح الراوي على كثر الحكايا في الربط بينها، وفي تداخل الحكايات المختلفة واندماجها في بعضها، وفي تحقيق وحدة العمل والتأثير.
فكانت البداية هكذا: “عانيت الكثير.. أقبل العيد، وأفكاري تنضح من ثقب ذاكرتي المعطوبة، أيقنت الليلة ليست مثل باقي الليالي، لأن الإحساس داخلي ينجب قلقا مبكرا.. حينما يصل عمري الأربعين، أبدأ بممارسة حياتي بنمط هش يخشى الانحدار، وتصبح الزغاريد نوعا من الإسراف المخجل، لكنها وحدها من أسرتني بقوام يحرك ذرات السكون داخلي مثل زوبعة لا تنتهي.. بقيت مشتتا بين مناسبة العيد وطغيان هاجسها المنثال أمامي مثل صرخة أطلقها في البراري بلا رجع صدى، لكنها أثمرت بوحا يتمرا بلا ندم، يكشف عن ألم في صدري أحسبه الحب”. (1)
قوية، مشوقة وبوابة عبور أولية للقارئ ليواصل ويكمل رحلته إلى عالم الرواية، وهكذا يضعنا الراوي مباشرة في قلب الحدث الرئيس بما يحمله من تشويق وإثارة وغموض، فمذكرات رجل مشرد في سن الأربعين لا بد أن تكون حبلى بالمفاجآت، وأن تنشئ في نفس القارئ أسئلة عديدة سيمضي قدما في البحث عن إجابتها.
ويمضي الراوي فيصور من خلالها حالة البطل واللحظات التي كان عليها. ومن خلال هذه اللحظات يقدم حالته النفسية والاجتماعية والعمرية، ثم يصور السبب الذي أوصله إليها. والموقف وحالته النفسية والاجتماعية والمكانية والإرث الكامن في سره الدفين، بصور مناسبة مشوقة للقارئ، لتنتهي البداية الآسرة ــ بوابة الدخول للرواية ــ بخيال فيه تلميح مشوق للحبيبة التي تأسر عليه كيانه.
ويستمر بذلك في تقديم حلم يحكيه البطل بنفسه عن رؤيته لشخصية تاريخية هي “شارلمان” (2)، ولها دلالة رمزية للمكان في السياق، وتسأله في الحلم عن شخصية تاريخية هي “هارون الرشيد”، لها نفس الدلالات التوظيفية لسابقتها.
والمتأمل لهذه البداية الناجحة بما حملته من عمق، ومعلومات عن الشخصية الرئيسة، وعن البيئة، وعن طبيعة الصراع الذي ستخوضه الشخصية الرئيسة، سيجد واحدا من أهم عناصر الجذب في الرواية.
فمن خلالها يبدأ التعرف على الشخصية الرئيسة وعمره وبيئته الأم التي نشأ فيها وحالته النفسية القلقة والبيئة الجديدة التي أجبر على العيش فيها، وكشفت ردود فعله الأولى عن طبيعة الصراع المنتظر، صراع البطل مع نفسه ورغائبها الداخلية بكل إغراءاتها، وهو ما بنيت عليه الرواية، ويبقى الخيط الجاذب على امتدادها.
كما ألمحت البداية إلى الزمن الخارجي دون تحديد واضح له، ولكن يفهم من خلال السياق أنه سرد تاريخي للتعايش البشري في العراق منذ الأزل. أما الزمن الداخلي فقد وضح منذ البداية أنه مزاوجة بين الحاضر والماضي، واستحضار الماضي الذي يكتسب صفة الحضور بالأفعال المستخدمة في النص، وإن كانت أغلبها بصيغة الماضي، إلا أنها تروي للقارئ ما حدث وكأنه يحدث أمامه من خلال أسلوب السرد المشهدي الذي يعنى بتفصيل الحدث وعرضه عرضا مسرحيا، وكأنه يحدث أمام القارئ بما يحويه من فعل وحركة وحوار.
الحدث الرئيس في الرواية “توما هوك” هو إثبات التعايش السلمي البشري بين جميع الطوائف والمذاهب والأديان في العراق، ويتكأ فيه الراوي صالح الخلفاوي على التاريخ الإنساني المؤكد لذلك من خلال الشخصيات المروية ومن خلال أحداث أُخرى رئيسة وثانوية تم توظيفها من أجل ذلك بالنص.
وقد استخدم الخلفاوي بناء الأحداث وفق نسق التناوب الحديث النشأة القائم على سرد أحداث مختلفة في المكان والزمان من قصتين مختلفتين هما: قصة البطل التي يرويها الراوي، وقصة “آمال” مع “بنت الشيخ شلتاغ”، وهو بناء حديث لم يسبقه إليه أحد في العالم العربي غير الروائي السوداني الطيب صالح في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”.
واستخدم من أجل ذلك الخلفاوي النسق الحديث لبناء الشخصية الرئيسة الأولى، والنسق التقليدي المشهور في بناء الشخصية الأنثوية الرئيسة الأُخرى، مع طغيان البعد النفسي على الشخصية الرئيسة الأولى التي صور أحوالها الشخصية النفسية، وما تحمله من عواطف وطباع وأفكار، وما يعتمل فيها من انفعالات وأزمات وهواجس حين قدمها بإبداع مقنع للقارئ شبيه بجعلها شخصية واقعية ذات مشاعر مستقلة خاصة بها ومؤثرة في علاقاته بالآخرين، مستخدما أسلوب الإظهار الأقوى أثرا في نفس القارئ والذي تمكن من خلاله من ربط القارئ بالشخصية الرئيسة الأولى ومن بناء جسر بينه ــ القارئ ــ وبينها ــ الشخصية ــ مؤسسا على معرفته الوثيقة بها في “توما هوك” (3).
المكان في الرواية “توما هوك”، أو بتعبير آخر أكثر دقة الفضاء الروائي للشخصية الرئيسة الأولى خفي، ويكاد يكون معدوما فيها، مما أضاف للحبكة التماسك ووفرت لها التشويق والجذب حتى آخر لحظة، ولكنه ــ المكان ــ للشخصية الرئيسة الأُخرى ــ آمال ــ شديد الوضوح بأنه العاصمة العراقية بغداد، لدرجة أنه يخيل للقارئ أنه يسير مع الشخصيات الروائية ــ الرئيسة والثانوية ــ بين شوارعها وبيوتها ومقاهيها وأهلها وطوائفها وأساطيرها وحتى شخصياتها التاريخية، وليكتشف من خلالها القارئ أنها المكان الأصلي الذي هاجر منه الشخصية الرئيسة الأولى، والمكان الخفي المستعصي للبطل الراوي من خلال بعض السرد التلميحي، وبعض الشخصيات التاريخية المروية والأماكن، أن المكان الخفي الأصلي للبطل هو العراق والقاعدة التي يتخذها الراوي منطلقا للأحداث هي أرض المهجر “مدريد” الإسبانية، وبالتالي يتضح أن الفضاء الشمولي المشير إلى المسرح الروائي بكامله في رواية “توما هوك” الخلفاوي كان موزع على مكانين هما بغداد العراق ومدريد الإسبانية.
ومن هذه القاعدة السابقة تظهر العلاقة الوثيقة بين المكان والشخصية التي وظفها الخلفاوي التوظيف المناسب لجميع الشخصيات بالرواية، ويظهر هذا التأثير للمكان في الشخصية من الأسماء التي اختارها الراوي بعناية مثل: هارون الرشيد، شارلمان، السندباد، آمال، أم عبدالزهرة وسرداد، وكذلك أسماء الأماكن مثل: غرناطة، بغداد وكنيسة الكلدان وغيرها من الأسماء الموجودة بالرواية تجعلها تتجه للمنحى الواقعي بالسعي إلى إدخال العالم الخارجي بتفاصيله الصغيرة إلى عالم الرواية التخييلي لإشعار القارئ بأنه يعيش عالم الواقع لا الخيال، لأنها لم توضع جزافا، ومن خلالها ــ الأماكن المذكورة ــ يتعرف القارئ على الشخصيات الروائية التي تأهلها، لأنها تقوم بدور تفسيري داخل النص الروائي يعين على فهم الشخصية الآهلة للمكان، كما أنه يكشف عن الحياة اللاشعورية للشخصية من خلال نظرتها وتعبيرها عن المكان، ومعتمدا ــ الخلفاوي ــ في تقديم سرده الروائي على الاسترجاع المزجي، ومتخذا مسار الخط اللولبي من أجل تقديم رؤيته وأهدافه الفنية والجمالية والمضمونية في النص، وبطريقة أكثر فنية من خلال الخلفية التاريخية للأحداث الروائية في “هارون الرشيد”، “شارلمان”، “جلجامش”، “انكيدو”، “العيد” وغيرها من الأمور التي كانت بمثابة علامات يهتدي من خلالها القارئ بصورة غير مباشرة إلى الفترة الزمنية التي تعالجها الرواية والتي وضعها الراوي صالح الخلفاوي بحرفية لتؤدي وطائف بنائية في “توما هوك”، لتكون جزءا رئيسا في بنيتها، يرتبط بأحداثها وشخصياتها، وحبكتها وفكرتها، تزيد القارئ يقينا بمنطقية ومعقولية الرواية.
وتضمنت اللغة السردية للرواية “توما هوك” على لغة باذخة الجمال، موازية لمستوى الكاتب صالح الخلفاوي، الثقافي الذي تقمصه في دور الراوي الداخلي من البداية بالشخصية الرئيسة للرواية، واستخدم فيها عن وعيّ اللغة التصورية والتعبيرية، وحتى اللغة المرجعية (المضمنة) الظاهر بشكل واضح في: “تذكرت والدي لم يكن متدينا.. لكن والدتي رغم نزقها كانت متدينة دائما، تضع شموع النذر ليالي الجمع مع أوراق ألآس، وصحن الحناء عند الطرف القصي من غرفة نومها تحت صورة كبيرة للإمام (علي) ممسكا سيفه المميز مكتوب عليه (لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذوالفقار)”. (4)، كدلالة على الانتماء المذهبي لبعض الشخصيات، وإضاءة على محيطهم السياسي والاجتماعي والثقافي، ومعتمدا فيها ــ اللغة السردية المركزية ــ على الحوار الناجح الملتحم بالسرد بصورة طبيعية ومؤديا وظيفته البنائية بالرواية، ومحركا للأحداث وكاشفا عن الشخصيات وموضحا لبعض المشاهد الضرورية بالنص، ومتوافقا بعفوية مقنعة مع الشخصية التي تقوله، والبعيد كل البعد عن الثرثرة الزائدة، والمسرحية المعيبة للنص الروائي،
حتى الجنس في رواية “توما هوك” للكاتب صالح الخلفاوي كان له حضورا مغايرا للشكل الذي ظهر عليه بالنص، بسبب التوظيف الذي أظهره تارة كمحطة للانطلاق من جديد لسير الأحداث، وأُخرى كمشهد فاضح للصراع الحاصل على السلطة السياسية بالعراق، والرموز الشخصية والمكانية بالرواية أضافت للنص عمقا وقوة للأحداث والفكرة المرسلة من النص.
باختصار شديد: الرواية تؤكد أن التعايش البشري السلمي بين الأديان والمذاهب والأعراق المتنوعة هو تركيبة أساسية للعراق الأرض والإنسان منذ الأزل، وسيبقى كذلك، ولن تزعزعه أيّ دعوات هدامة عابرة بالحياة.
1- الرواية توما هوك.
2- شارلمان: الإمبراطور الفرنسي الذي فشل طول فترة حكمه في طرد المسلمين من إسبانيا.
3- توما هوك رواية الكاتب العراقي صالح جبار محمد الخلفاوي.
4- الرواية توما هوك.

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد