من كراسة أوزود…

بقلم الكاتب مصطفى جباري
1- ماتت سعاد
اليوم ماتت.
في الليل أفاقت أمها النائمة بجانبها، ووجدتها تنتفض. رأت رغوة بيضاء تنز من فمها، وعينيها زائغتين في السقف… هرعت من فزعها إلى غرفة ابنها، وعادا بعد لحظة ليجداها جادت بروحها…
حين طلب مني أخوها قبل سنة أن أشتري لها علبة الدواء، عرفت من العلبة أنه دواء الصرع. لكن لا أحد يصدق أنها مريضة بداء اسمه “الصرع”، ولا أحد يعرف ما هو هذا الصرع أصلا.. رأت الطبيب مرة واحدة في حياتها التي دامت عشرين سنة. هي بالنسبة لهم “مسكونة” يُخرج من يسكنها رغوة بيضاء من فمها، ويعكر مزاجها، ويلقيها في غيبوبة تصدر خلالها كلاما لا ينبئ عنها، وإنما عنه، وبصوته الخشن الآتي من وادي الجن الكافر… وبعد أن يتركها يصبح ذهنها صافيا ويشرق وجهها، كأنا عبرت مطهرا مؤلما قاسيا.
جاءوا لها بمن يقرأ عليها القرآن مرات عديدة، وبعلبة الدواء مرتين أو ثلاث..
اليوم غادرها من يسكنها للأبد.
قال أخوها: كان وجهها مشرقا كالملائكة بعد موتها. وحكى بحمية موسوَس كيف رآها في منامه بعد ليلة عشاءها، ترفرف في جنبات الجنة، وتبتسم لهم جميعا من هناك.
أنا أيضا رأيتها في منامي بعد ذلك. كانت عيناها علامتي استفهام شارقتين بدمعة.
2- في تباعد الحجر الصحي
حادة ونجمة وفاضمة يطبقن قاعدة التباعد الاجتماعي تحت شجرة اللوز حيث مجلسهن اليومي بين العصرية والمغرب… في البداية احترام وانتظام. تشرئب عنق حادة بالكلام. لم تعد الوشوشة وهي المنحى الغالب على الحديث بينهن، ممكنة… هذه تجربة جديدة بالنسبة لهن.
ودون أن تعي ذلك تقدم فاضمة قدمها اليسرى، ودون أن تشعر نجمة تفلت منها قدمها اليمنى، ويزحف جدع حادة مع عنقها المشرئبة… وبعد خمسة دقائق فقط يصير التباعد في خبر كان… وتنزل أمامي صورة المتحلقات حول شجرة اللوز التي تستعيد هفهفتها بأثر وشوشاتهن…
3_ درس الأمازيغية
جاء إلياس ومعه بيان النقط النهائية… نجح بمعدل 6 على عشرة. لائحة المواد المدرَّسة بأسماء مركبة وغير مفهومة. أسأله عن بعضها. لا يعرف معناها ولا حتى اسمها.. بجهد يتذكر محتوى المادة الأساسي.
في مادة اللغة الأمازيغية حصل على نقطة ستة على عشرة. أسأله ماذا يدرسون في هذه المادة فتجحظ عيناه، ويجيب مستغربا:
_ هاذي.. ما كايناش.. يعطونا النقطة وصافي…
4_ عصا
أثارني حفيف غامض وأنا أعبر بجانب بيت قديم على النهر.. كان القصب المحيط بباحة البيت في نصف دائرة مغطى في الجزء المحاذي للطريق بورق الدالية، دنوت في صمت ونظرت من خلل الأوراق المتكاثفة.. كان عجوز يزعلل عجوزه مستعينا بعصاه ينخس بها الأرجوحة الخشبية…
هذا المأرب ما خطر ببال موسى وعصاه… ولا ببال الجاحظ الذي كان أكثر موسوعية من موسى في الموضوع… على أي لم يورد هذا المأرب في “كتاب العصا”…
5- غسق
من الشرفة، في المساء يطلع القمر نصف مكتمل، تمتص أوراق الصفصاف البيض ضياءه فتبدو، في هبات الريح كأن وميضا خافتا يندلع منها ويتكاثر حتى يحجب عن نظري أشباح الأشجار الأخرى المتبدية في الضياء.
أشجار الزيتون نهدت حباتها واكتنزت. شجيرات اللوز عارية من تمارها. لا شك أن حادّة جنتها.. التينة على الساقية دلت تمارها لكنها ليست بكثافة تمار العام الماضي…
شجرة العرعار الوحشية تمادت بأغصانها الغريبة واخترقت حوزة زيتونة يانعة فانكمشت عنها أغصان الزيتونة التي في جهتها وطالت التي في البراح المقابل…
جذور الزيتون والعرعار تتضافر في العمق، فترسل ضراعاتها إلى الأغصان لتتلامس وتشتبك في الأعالي…
ينزل القمر المنتصف وراء حدبة الجبل فتختفي التماعات صفحات الصفصاف وتحل محلها أشباح الأشجار المترنحة في المهب المزاجي للريح…
أقرأ من دفتر القصائد قصيدة شاعر ياباني لم أثبت اسمه:
“كندى الخريف
الذي لا يمكث سوى لحظة
على أطراف العشب النابت،
كذلك أنا، أعرف أني لا بد سأذبل،
وأرحل عن هذا العالم الزائل.”
وفي الأعالي تثبت أنامل لا مرئية أشباح النجوم في بشرة السماء التي تتأهب للعتمة…

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد