في عام 2012 ، عندما اسقط السلاح الجوي السوري طائرة تركية من نوع اف-4 انتهكت المجال الجوي السوري ، قال اردوغان غاضبا ” ان الطائرة كانت تقوم بتدريبات وان انتهاك الطائرة للمجال الجوي السوري لم يدم سوى عدة دقائق ، وان ذلك لا يمكن ان يكون مبررا لاسقاط الطائرة” .
الطائرة الحربية الروسية التي أسقطتها السلاح الجوي التركي ، لم تشكل أي خطر على تركيا ، وكانت تحلق في الأجواء السورية وربما حلقت في المجال الجوي التركي على الحدود مباشرة لعدة ثوان فقط ، خاصة أن ثمة – كما يقول الخبراء العسكريون الروس – لسانا ضيقاً من الأرض التركية تمتد داخل سوريا لعدة كيلومترات ، ويضيفون بأن الصاروخ التركي الذي اسقط الطائرة قد أصاب ظهر الطائرة ،مما يعني ان الطائرة لم تكن متجهة الى داخل الأراضي التركية ، وكانت روسيا قد اقترحت على تركيا في وقت سابق ، التنسيق المباشر بينهما لتجنب أي اشتباك في الجو ولكن تركيا لم تتجاوب مع الأقتراح الروسي.
إرتكبت تركيا خطئاً فادحاً بأسقاط الطائرة الروسية في وقت عززت فيه روسيا قدراتها العسكرية في السنوات الأخيرة واستعادت مكانتها كقوة عظمى ، وتحولت الى لاعب أساسي في السياسة الدولية وخاصة في الشرق الأوسط ، وبسطت نفوذها على عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة ،وابتلعت ابخازيا بعد فصلها عن جمهورية جورجبا واحتلت نصف اوكرانيا ، دون ان تتخذ الولايات المتحدة الأميركية ودول حلف الناتو أي خطوة جادة للحد من أطماعها ، خاصة بعد تراجع الدور الأميركي في هذه المناطق بسبب تجنب ادارة أوباما الأحتكاك بروسيا أو الأقدام على أي خطوة من شأنها زيادة التوتر بين البلدين ، واكتفاء الدول الغربية بفرض عقوبات اقتصادية غير مؤثرة كثيرا على روسيا . وفي مثل هذه الظروف على تركيا الآن أن تواجه وحدها التداعيات العسكرية والأقتصادية لهذا الحادث الخطير .
الأحساس بعظمة روسيا ومجدها الأمبراطوري متجذرة في الوعي الفردي والجمعي الروسي، وهو ليس وليد اليوم ، فطالما تغنى به الشعراء الروس العظام ، من بوشكين وليرمنتوف الى ماياكوفسكي ويفتوشينكو . وكما يبدو من تصريحات المسؤولين والبرلمانيين الروس وتعليقات الصحافة الروسية ، فأن ردود الفعل الروسية العنيفة على الحادث ناجمة عن اعتقاد الروس ان تركيا قد جرحت الكبرياء الروسي وأنها لهذا السبب لن تفلت من العقاب .
ولا احد يشك اليوم في أن تركيا ستدفع غالياً ثمن فعلتها غير المبررة ، فقد اتخذت روسيا خلال الايام القليلة الماضية ساسلة اجراءات أدت الى شبه قطيعة تجارية بين البلدين ، إضافة الى الغاء أو تجميد كل المشاريع الأستثمارية المشتركة بينهما ومنها خط الغاز المسمي ب” السيل التركي ” الذي كان من المفترض أن ينقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية الى أوروبا . وتركيا نفسها تعتمد على روسيا في سد حوالي ثلاثة أرباع احتياجاتها من الغاز الطبيعي . كما تشمل الأجراءات الروسية ايقاف العمل في إنشاء أول محطة نووية في تركيا ، وفرض تأشيرات دخول على المواطنين الأتراك ، بعد عقد من الغاء التأشيرات بين البلدين وايقاف الرحلات الجوية الى تركيا ، وعدم السماح للمواطنين الروس بالسفر اليها، ، مما يفقد الخزينة التركية مليارات الدولارات سنوياً الى حين عودة العلاقات الطبيعية بين الجارتين .
وربما كانت التداعيات الأقتصادية لهذه الحادثة أهون بكثير ، من عواقبها العسكرية في سوريا وتداعياتها السياسية في منطقة الشرق الأوسط . المغامرة التركية سواء أكانت متعمدة أم عفوية ستؤدي الى نتائج عكسية تماما لكل ما سعى اليه أردوغان طوال السنوات القليلة الماضية . لن يستطيع بعد اليوم من اسقاط النظام السوري ، خاصة بعد قرار روسيا تعزيز وجودها العسكري في سوريا . كما ان الأقتراح التركي بنشاء منطقة عازلة بين تركيا وسوريا ، لم تعد على طاولة البحث بعد اليوم .
اردوغان فعل الكثير لأزاحة الرئيس السوري عن السلطة ، عن طريق دعم قوى المعارضة السورية الموالية لتركيا وغض النظرعن تدفق آلاف الجهاديين عبر اراضيها الى سوريا للألتحاق بداعش ، وفتح مستشفياتها لمعالجة جرحى التنظيم . وكانت الشرطة التركية قد اعتقلت في يوم الحادث صحفيين اثنين من جريدة جمهورت التركية بعد ان كشفا النقاب عن شحنة اسلحة تركية ارسلتها المخابرات التركية الى سوريا. وربما كان السبب المباشر لأسقاط الطائرة الروسية هو أنها كانت تقوم بقصف الطابور الطويل من صهاريج نفط داعش المتوجه الى تركيا .
أردوغان لم يدخر جهداً في منع قيام كيان كردي في شمال سوريا ، ولكن حادثة اسقاط الطائرة الروسية أدت الى مطالبة العديد من البرلمانيين والخبراء والمحللين السياسيين الروس للرئيس بوتين بتقديم الدعم السياسي والتسليحي الى الشعب الكردي في تركيا وسوريا . وفي حالة استجابة الحكومة الروسية لهذه النداءات فأن الكيان الكردي ستظهر للوجودعلى نحو أسرع مما يتصوره الرئيس التركي .
في يد الرئيس الروسي أوراق ضغط كثيرة أخرى منها تأييد أرمينيا في صراعها مع أذربيجان – المقربة من تركيا – حول عائدية منطقة قره باغ ، والتذكير بالمذابح الأرمنية في المحافل الدولية ، والقاء الضؤ على قمع حرية التعبير في تركيا ومنها غلق الصحف المعارضة واعتقال محرريها . وبوسع موسكو دعم الأحزاب المعارضة لحكومة حزب العدالة والتنمية .
جادثة الطائرة لن تؤدي الى مواجهة عسكرية بين روسيا وتركيا بأي حال من الأحوال ، كما يتصور البعض ، رغم أن عواقبها السلبية شديدة التأثير على تركيا ، ويبدوأن الرئيس التركي أدرك ذلك ، فأخذ يتراجع عن مواقفه المتشددة ، ويعرب عن أسفه لأسقاط الطائرة الروسية عن طريق الخطأ ، لأعتقاد الطيارين الأتراك بأنها طائرة سورية ، ويتعهد بعدم تكرار ذلك مستقبلاً .روسيا تريد ليس أقل من اعتذار تركي علني وموثق وتعويض الخسائر الناجمة عن الحادثة .
الأعتذار التركي الرسمي قد يزيل التوتر الشديد القائم بين البلدين حالياً ، ولكن عودة العلاقات الروسية التركية الى سابق عهدها ، قد يحتاج الى أشهر وربما سنوات ، في وقت تعاني فيه تركيا من أزمات داخلية وخارجية ، وعزلة أقليمية ، واستياء غربي بسبب تدفق الجهاديين الى سوريا ، واللاجئين الى أوروبا عبر اراضيها ، وعدم احترامها لحقوق الأنسان ، وانتهاكها لجميع أشكال حرية التعبير ، في بلد يطمح في نيل عضوية الأتحاد الأوروبي .