الحوار والردح

فهمي هويدي

صرنا بحاجة لوقفة نفرق فيها بين الحوار والردح. إذ منذ فتحت قنوات ومنابر التعبير على آخرها فى زماننا، فإن الخطوط تداخلت وانفلت العيار، فاختلط الجد بالهزل والمعقول بالعبث واللامعقول.. وعصفت الموجة بالكتابة التى أهدرت فيها الضوابط والمعايير حتى صارت بمثابة نزوة تراجعت فيها الصنعة والحرفة. وحين عم الهرج لم يعد هناك مفر من العودة إلى التذكير بالمسلمات والبديهيات، التى منها تنبيه الجميع إلى الفوارق بين الحوار والردح. وهى التفرقة التى أصبح يفتقدها بشدة الذين يغامرون بالتعبير عن آرائهم. أخص بالذكر من هؤلاء الذين يغردون خارج السرب ويرفضون الانخراط فى القطيع. إذ انهم وحدهم الذين يوصف آداؤهم بالمغامرة. ذلك ان مواقفهم حين تنطلق من المغايرة فإنها تعرض أصحابها لمختلف صور الإرهاب والتطاول التى يعد الردح من بين أسلحتها، وتعد الاتهامات والبلاغات الكيدية سلاحا آخر. واعتذر عن استخدام كلمة الردح التى لا اعرف ان لها أصلا عربيا، وفى حدود علمى فإنها ضمن الدارجة المصرية التى لم أجد لها مقابلا فى الفصحى. إذ إن الكلمة صارت مصطلحا يجمع بين التجريح والتحقير والسوقية والابتذال، وغير ذلك من الصفات التى يتأبى عليها أهل المروءة، وبسبب السعة فى منابر التعبير فإن فضاءاتها أصبحت تستقبل كل أصناف البشر، الصالحون منهم والطالحون، والأبرار والفجار والأنقياء والأدعياء.

الحوار ان تطرح حجة فى موضوع لكى تصوب فكرة أو تهدمها. والردح أن توجه مسبّة إلى شخص لكى تشوهه أو تهدمه. والحوار له سقف وأدب وضوابط. فصّل فيها أهل العلم الذين كتبوا فى أصول «المناظرة» والمجادلة، منهم أبوحامد الغزالى والأوزاعى والإمام الجوزى، والأخير ذكر أن المجادلة وضعت ليستبين الصواب. أما الردح فهو بلا سقف أو ضوابط وقلة التهذيب والأدب من مقوماته الأساسية. ذلك ان هدم الفكرة محكوم بمضمونها وإطارها أما هدم الشخص فلا تحكمه سوى حصيلة الرداح من السوقية والبذاءة. وبعض أهل العلم وصفوا هذا السلوك بالمعنى الاصطلاحى لكلمة «المراء»، إذ ذكر الإمام الغزالى أن المراد به «طعنك فى كلام الغير لإظهار خلل فيه، لغير غرض سوى تحقير قائله». وللإمام الجرجانى صاحب كتاب «أسرار البلاغة» مقولة بنفس المعنى، ربط فيها بين المراء والسعى إلى تحقير الغير. بسبب ما سبق فإن الحوار له أهله الذين يتصفون بالمعرفة وقوة الحجة والنزاهة الأخلاقية، أما الرداحون فهم معفون من كل ذلك. بل من شروط نجاح الردح ان يتخلى صاحبه عن تلك الصفات التى ذكرت، بحيث انه كلما أوغل فى التخلى علت مرتبته بين نظرائه ومحبذيه.

ما دعانى إلى استحضار ما ذكرت ثلاثة أمور. أولها أن ضيق الصدور فى مصر يزداد حينا بعد حين فى مختلف شرائح المجتمع، حتى أصبح الرأى المخالف لعنة تطارد صاحبه وتفتح عليه أبواب الجحيم. وإذا كنت قد ذكرت قبل قليل أن المغايرة صارت نوعا من المغامرة التى لا تؤمن عواقبها، فإننى أضيف أيضا أنها يمكن ان تتحول إلى عملية انتحارية أو استشهادية تنهى حياة صاحبها فى المجال العام وتعرضه إلى مالا يخطر على البال من اتهامات تبدأ بالاخونة وتنتهى بالخيانة. ومن المفارقات ان الذين يستنكرون ممارسات «داعش» بما فيها من فظاظة وهمجية تصيب المغامرين من الشيعة والمسيحيين والإيزيديين، هؤلاء أنفسهم يسيرون على الدرب ذاته بدعواتهم إلى اقصاء الآخر وإبادته والتنكيل به. وإذا كانوا يشددون حملتهم على التكفير الدينى فإنهم لا يترددون فى الترويج للتكفير السياسى.

الأمر الثانى ان الأجواء المحيطة بنا التى ذكرت شكلت عاملا ضاغطا ضيق كثيرا من فضاءات الحوار وانعش بنفس القدر بضاعة الردح بما تسوقه من أساليب ومفردات. وهو ما أشاع درجة ملحوظة من التدهور فى لغة الخطاب المتداولة على ألسنة بعض العوام الذين قد نعذرهم لانهم يرددون ما تسوقه وسائل الإعلام المرئية والمقروءة بعدما تحول أغلبها إلى مدارس تروج للسوقية والابتذال فى المسلسلات والبرامج الحوارية. وتلك حقيقة لا تخطئها عين الباحث الذى يلاحظ أن بين الصفوف الأولى من الإعلاميين أناس لم يحتلوا مواقعهم إلا بعدما اثبتوا قدرة عالية على الردح والإسفاف.

الأمر الثالث اننى أحد الذين يعتبرون ان وظيفة الإعلام هى التنبيه ودق الأجراس، أملا فى تصويب المسار نحو الأفضل والأرقى. أما التصفيق والتهليل فهو ما يدخل فى عداد الإعلان وليس الإعلام، على الأقل فقد كانت تلك قناعتى منذ التحقت بالمهنة قبل أكثر من نصف قرن. وقد التزمت بذلك الموقف طوال تلك الفترة، وعلمتنى التجربة أن الكاتب إذا أراد ان يظل مستقلا وان يكون ولاؤه لقارئه وليس لرئيس أو نظام، فإن ذلك لن يتحقق بالمجان فى بلادنا ولكن له ثمنه الذى دفعته راضيا مرضيا. وكانت حملات التشويه التى قام بها بعض الإعلاميين من بين تلك الأثمان. وما أستغرب له أننى كنت أكتب آراء متواضعة تحتمل الصواب والخطأ بطبيعة الحال، ناقشها بعض العقلاء لكن كتائب الردح تجنبت أى حديث فى الموضوع وصوبت سهامها نحو الشخص. وهو ما مرّرته واحتملته. إلا أن الذى استجد فى العامين الأخيرين ان الكتائب تحولت إلى جيوش وان الردح تحول إلى اتهامات من العيار الثقيل وان البلاغات الكيدية أصبحت تنشر عيانا بيانا فى الصحف. فلم يناقش أحد فكرة أو يصحح معلومة، ولأنه ليس لى فى الردح باع فلم يكن لدى ما أقوله سوى هذه «الفضفضة» التى أردت أن أبثها إلى القارئ، مفوضا أمرى إلى الله. ومطمئنا إلى أنه ــ سبحانه ــ وعدنا فى كتابه بأنه يدافع عن الذين آمنوا.

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد