كتبه محمد هرار الدانمارك
_شعبي العزيز:
غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غدا إن شاء الله ستطالون أرضا من أراضيكم، وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون أرضا من وطنكم العزيز._
كانت تلكم كلمات ابتدأ بها الملك الراحل الحسن الثاني خطابه الذي ألقاه من مدينة أكادير، يوم الأربعاء الخامس من نوفمبر من عام 1975م، في إشارة منه، إذ أمر المشاركين ببداية الخطوات الأولى باتجاه الصحراء المغربية في يومه التالي السادس من نونبر. وبذلك تنطلق المسيرة الخضراء المظفرة نحو الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية في “نظام وانتظام”. وقد أشاد الملك الراحل في خطابه التاريخي المميز بالروح الوطنية الجماعية العالية لشعبه، والتسابق السريع في فداء الوطن بالغالي والنفيس. كما أشاد في خطابه كذلك بمواقف الدول الشقيقة والصديقة التي وقفت إلى جانب المملكة ودعمته في مسيرته الإبداعية السلمية لاسترجاع أقاليمه الجنوبية، أمثال المملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، ودولة قطر، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان، والسودان، ولبنان… وهي الدّول التي مثلها طيف من أفرادها في حدث المسيرة إلى الصحراء جنوب المغرب في سبعينيات القرن الماضي.
وقد عقب خطاب الملك الرّاحل فرحة وبشرى غمرتا أفراد الشعب المغربي في كل مكان. فاحتفلت المدن والقرى والبوادي والمداشر، وتعانق المواطنون فرحا وطربا مهنئين بعضهم البعض بالخبر السعيد المفرح. نبأ إعطاء الإشارة الأولى لانطلاق المسيرة الخضراء إلى الصحراء. حيث كان 350 ألف مواطنا مغربيا ومغربية متطوعين ومتطوعات، من مختلف فئات وأعمار المجتمع؛ سياسيين وإعلاميين، مثقفين ومن عامة الشعب على موعد للمس رمال قطعة من وطنهم ظلت تحت نيل الاحتلال منذ 1884 م.
إنّ أبرز ما يمكن استخلاصه من تلك المسيرة من عبر – وهي كلها بلا شك عبر وتأملات غاية في الأهمية حسب رأي الشخصي – هي تلك الروح الوطنية العالية، والتنافسيّة المتسارعة التي ميّزت الشعب المغربي، وهي روح لا يمكن مقارنتها إلّا مع نداء الدّفاع عن حوزة الدّين والأوطان، وهي كذلك، إذ يمكن ربطها بما حملته من تجليات وانفعالات مشحونة بالعاطفة الجياشة والمفرطة، والتواقة في ذات الحين لصلة الأرحام مع الأهالي الذين قطعهم حكم الاستعمار لمئات السنين في الجنوب، باعتبار الوطنية قاسم مشتركة يجمع بين جميع مكونات الشعب المغربي من طنجة أقصى الشمال، إلى الكويرة أقصى الجنوب.
لقد كانت ولا تزال الروح الوطنية وما تحمله من دلالات عميقة ضاربة في جذور التاريخ المغربي منذ الفتح الأول للمغرب، وهي الآن تذكرنا كذلك بالعديد من المحطات المهمّة في مسيرة المملكة المغربية على مرّ التاريخ. خصوصا ما تعلق بحقبة الاستعمار وما شابها من تقطيع لمفاصل التراب الوطني المغربي ظلما وعدوانا. إذ لم ييأس المغاربة من التصدي للمحتل ولم يمهلوه فترة لأخذ أنفاسه متصدين بأرواحهم لجميع مؤامراته. وقد رُويت أراضي المملكة المغربية وسُقي ترابها ورمالها وجبالها وهضابها وسهولها بدماء الشهداء الزكية لتتشكل معالم الشخصية الوطنية المناضلة في جميع تراب المملكة وتلاحم الشعب والعرش في أبهى صور الكفاح السياسي والمسلح حتى استسلم المستعمر بعد تلقيه لضربات قويّة وموجعة واضطرّ صاغرا إلى التخلّي عن المغرب العزيز لينال استقلاله سنة 1956م عزيزا مكرّما. إلا أنه ظلت قطع من ترابه العزيزة تئنّ تحت نيل الاحتلال؛ فكانت فكرة المسيرة الخضراء الإبداعية مكملة لمشوار النضال؛ فاسترجعت المملكة المغربية وضمت أراضيها المقتطعة منه جزئيا سنة 1975م.
لذا فقد كانت المسيرة الخضراء المظفرة في نظري محطة مفصليّة وقيمة مضافة في تاريخ بناء الهويّة المغربية التي أسهمت بلا أدنى شك في تأصيل الروح الوطنية المتجذرة في عروق المغاربة أبا عن جد. فالمسيرة الخضراء إذن ليست مجرّد نظرية وفكرة إبداعية قد غرست في ذاكرة الزمن فحسب. بل هي أكثر من ذلك؛ فقد أسّست نموذج عمل استثنائي في مجال الكفاح والنضال الوطني، وعليه فحريّ بنا وباللاحقين من أبنائنا أن يتوقّفوا عند ذكرى تلك الفكرة الإبداعية، ليشبعوها دراسة ويفيضوا التدبّر فيها لتصبح أداة حقيقية وممارسة فعلية وسلوكا واقعيا على مضمار المطالبة بالحقوق ونشود الشهادة في سبيل وطن علّمنا أجدادنا فيه كيف نكون أعزّاء وكيف نستمرّ بالمطالبة بالحقوق حتّى نقتلعها من مغتصبها، فنشهد بذلك عزّة بلد لن تكون عزّتنا إلّا به، ونؤسّس لحبّ وانسجام لن يتوفّرا إلّا بحبّه!…
لتكن تلك الجملة الدّافعة التي قالها الملك الرّاحل الحسن الثاني في ثنايا خطابه: [غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غدا إن شاء الله ستطالون أرضا من أراضيكم، وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون أرضا من وطنكم العزيز] ذات صدى في النّفس حتّى نشهد ذلك الغد الذي بتنا بإذن الله نراه قريبا…