محمد اديب السلاوي
قبل أن يتحرك البرلمان المغربي، و يشكل لجان تقصي الحقائق لتقييم حجم الفساد المالي الذي ضرب ثلاثة من أكبر المؤسسات المالية و الاجتماعية في المغرب ( سنة 2000 ) ، تفجرت سلسلة من الفضائح المالية، أوقعت ما يشبه الانفجار الإعلامي، في وجه حكومة التناوب التوافقي، التي جاءت بأهداف الإصلاح و تخليق الحياة العامة، مع نهاية القرن الماضي، وهو ما أعطى الانطباع في حينه، أن هذه الحكومة، ستجد نفسها مجبرة على مواجهة كارثة الفساد المالي، التي أغرقت البلاد، في متاهات اقتصادية و سياسية، لا بداية و لا نهاية لها.فبالإضافة إلى قضية الفساد التي فجرتها صناديق الدولة: القرض الفلاحي / القرض العقاري و السياحي / صندوق الضمان الاجتماعي، و التي وصلت خسائرها، بسبب الإهدار و التسيب و الخيانة و الاستهتار، الى عشرات المئات من الملايير، التي كانت كافية لإنقاذ المغرب من البطالة و التخلف الاقتصادي و الاجتماعي. إضافة إلى ذلك، كشف الإعلام المغربي، في ذلك الوقت، عن سلسلة من الاختلالات المالية، التي ظهرت على واجهة العديد من المؤسسات البنكية و الخدماتية و الاقتصادية و الإدارية، مما أضفى على “الفساد المالي” بالبلاد صفة الكارثة.
في القطاع البنكي : كشف الإعلام خلال تلك الفترة ، عن الاختلاسات التي ضربت بنك الوفاء ، بمدينة الناضور، والتي ذهب ضحيتها المئات من الزبناء، وكشف أيضا عن التجاوزات المالية التي ضربت البنك الشعبي (فرع باريس) و تقدر بعشرات الملايير. و كشف في ذات الوقت، عن قضية البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، (مؤسسة مختصة في تمويل المقاولات الكبرى و المتوسطة) الذي طارت من خزائنه، في غفلة تامة عن المراقبة و المراقبين، حوالي1.200 مليار سنتيم، كانت مخصصة لتمويل مشاريع المقاولات الشابة.
وفي قطاع المطاحن : كشفت التقارير الإعلامية، خلال الفترة نفسها، عن فضيحة مالية كبرى، أهدرت إدارة جمعية المطاحن فيها عدة مليارات، بسبب التدبير السيء للعديد من قياديي هذه الجمعية.
وفي قطاعات الجماعات المحلية: كشفت التقارير الإعلامية في الفترة نفسها ، عن فضائح مالية ، تقدر خسائرها بعشرات الملايير، أرغمت وزير الداخلية السابق، ادريس البصري، على التصريح أمام البرلمان، أن وزارته، عرضت على المجلس الأعلى للحسابات 128 ملفا، تتضمن اختلاسات، حوالي ثلاثين مليار درهم.
وفي قطاعات حساسة أخرى: كشف الإعلام عن فضائح مالية كبيرة، تهم بالخصوص: وكالة المغرب العربي للأنباء / مكتب الصيد البحري / شركة كوماناف للنقل البحري/ شركات القرض المنزلي بالدار البيضاء / الشركة الوطنية للنزل و السياحة / شركة كوطيف للنسيج / الشركة الوطنية للمواد النفطية/ الغرفة التجارية بمدينة طنجة / المطاعم المدرسية (وزارة التربية الوطنية) / شركة ساتيام (للنقل الطرقي) و يقدر الخبراء الأموال التي أهدرت في هذه القطاعات، بمئات الملايير.
إضافة إلى كل هذا الفساد الذي ضرب / يضرب الأبناك والمؤسسات المالية والاقتصادية، عرف المغرب خلال العقود الأخيرة للقرن الماضي، قضايا أخرى ذات صلة وثقة بالفساد المالي، و تتعلق بتهريب المواد و السلع و الآليات، من الأسواق الخارجية، و إغراق الأسواق الداخلية بها، خارج كل مقتضيات القانون.
ففي سنة 1996، حيث تحركت الآلة القضائية ضد التهريب والمهربين كشف الإعلام الوطني والدولي عن حجم مهول لهذا الفساد، وعن الحجم الخيالي للأموال التي يهدرها ضدا في التنمية الاقتصادية الوطنية.
و يقوم هذا الفساد، كما هو معروف، على اقتناء البضائع و السلع، من مناطق معفاة في الجمارك (مدينتي سبتة و مليلية المحتلتين)، و إفلاتها من الرسوم المستحقة على الواردات، بإرشاء الجمارك أو بطرق أخرى.
و أفادت في ذلك الوقت، بعض التقديرات أن رقم معاملات التهريب، إلى حدود سنة 2000، كان يقترب من ألفي مليار سنتيم في السنة، تذهب لجيوب أباطرة التهريب، كما تفيد أن مائتي ألف (200.000 ) مواطن على الأقل يعيشون بالتهريب و من التهريب كعمال و بائعين و مهربين .
وحسب تصريح لوزير الداخلية السابق ادريس البصري ( بمناسبة الحملة التي قادتها وزارته ضد التهريب و المهربين سنة 1996) فإن الحكومة المغربية تتوفر على ملفات بحوالي أربعة آلاف و خمسمائة (4500 ) شخص، لهم ارتباطات بنشاط التهريب.
وقد مس فساد هذه المعضلة بجنونه العديد من المقاولات العاملة في حقل الإنتاج، خصوصا الصناعات الغذائية / أدوات الصيانة و التجميل / النظافة و التنظيف / الصناعات الالكترونية الخفيفة / الألبسة و النسيج.كما مس القطاع التجاري بمختلف فروعه.
إذ كان قطاع التهريب، يعتمد على استغلاله للأنظمة الاقتصادية الجمركة، وما يتيحه ذلك من مراكمة الثروات على حساب التهرب من دفع الرسوم لفائدة الخزينة العامة، بتواطؤ مع المسؤولين النافذين الذين يحمون لوبيات الفساد المالي و الاقتصادي.
و تفيد دراسة لإدارة أنجزتها دائرة الجمارك سنة 1995، أن تطور آفة التهريب، جعل أغلبية الشرائح الاجتماعية في المغرب، تعتبره نشاطا عاديا ومباحا، مما جعله يستقر في سلوكها العادي، لدرجة أصبحت معه هذه الظاهرة، أمرا مشروعا.
و تفيد دراسة إدارة الجمارك المغربية أن أسباب التهريب بأشكاله المختلفة، تعود إلى تطور المعاملات التجارية مع أسواق أجنبية قريبة، خصوصا بالمناطق الشمالية للملكة.
طبعا، لم تكن ملفات الفضائح المعلن عنها إعلاميا، في نهاية القرن الماضي، هي كل ملفات الفساد المالي، الذي يمتص دماء الشركات و الصناديق و المقاولات و الإدارات العمومية، و الذي يشكل منظومة مؤثرة إلى حد الوجع في الاقتصاد الوطني المغربي، و لكنها كانت نماذج على قلتها، تكشف حجم “المافيا” الواسعة و العريضة، التي تسطر بقبضتها على أركان الإدارة، وعلى صناديق المال العام، بعيدا عن أي مساءلة أو مراقبة.
لربما كان من حسنات انفجار هذه السلسلة من الفضائح في أزمنة متقاربة على واجهة الإعلام الوطني و الدولي، أنها جعلت المواطنين البسطاء، والنخب السياسية والثقافية، وكافة الفاعلين في المجتمع المدني المغربي، يعرفون عن كثب، أن الفساد الذي مس المؤسسات المغربية، في مختلف القطاعات، قوة تدميرية، تفوق في بطشها قوة الزلازل، أو قوة الانهيارات الاقتصادية … فهي قوة دمرت المؤسسات و الأبناك و الإدارات، كما دمرت القيم والأخلاق، و حولت المواطنين و الدولة و المؤسسات، إلى سوق يسيطر عليه الفاسدون من كل الأصناف والأشكال و الأحجام.
فقد أكدت هذه السلسلة من الفضائح، للرأي العام المغربي، بما لا يدع مجالا للشك، أن المال العام، لم يكن له أي اعتبار في سلوك المسؤولين عنه، فكان التبذير و السرقة و مظاهر البدخ و الإسراف و تحويل المبالغ الضخمة إلى الحسابات الخاصة، و عقد الصفقات المشبوهة و الخيالية، طابعا واضحا في تصرفات العديد من المسؤولين في الإدارات العمومية وصناديق الدولة والأبناك والمؤسسات الصناعية والفلاحية، و المقاولات ذات النفع العام، و بذلك لم تستطيع غالبية الميزانيات الحكومية، الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية و الاجتماعية و العمرانية، فكان التبذير على حساب البنيات التحتية لمعظم جهات البلاد، وخاصة منها جهات العالم القروي، على حساب حاجيات المواطنين في التعليم و الصحة و السكن والشغل،و كل الحقوق الأساسية للمواطنين، لدرجة دفعت الملك الراحل الحسن الثاني، إلى الإعلان عن “السكتة القلبية ” التي أصبحت تهدد البلاد، نهاية القرن الماضي.
هكذا أصبح واضحا للعيان أن الحجم الذي اتخذته ظاهرة الفساد المادي/ الإداري في البلاد، نهاية القرن الماضي أضحى يشكل تحديا حقيقيا للاستقرار السياسي، والتقدم الاقتصادي، وللانتقال الديمقراطي الذي كان الشعب المغربي، يراهن عليه أو على جدواه، في حل أزماته المتداخلة.
السؤال الذي يفرض نفسه في حالة هذه الظاهرة الخطيرة : لماذا لم تتحرك في ذلك الزمن آليات المراقبة التي يضعها القانون في مواجهة الفساد و المفسدين…؟
كيف سمحت هذه الآليات، و هي موجودة فعلا، للفساد أن ينمو و يترعرع، حتى أصبح بحجم الغول الذي يلتهم الأخضر و اليابس…؟
برجوعنا إلى ترسانة الأنظمة و القوانين التي سنها المغرب منذ بداية عهد الاستقلال (سنة 1956)، سنجد أمامنا العديد من الآليات الضخمة التي لا ندري لماذا … وكيف سمحت لمنظومة الفساد، أن تتخذ حجمها المهول الذي اتخذته، في ظل دولة تطلق على نفسها دولة الحق و القانون … ودولة المؤسسات، والتي ما زالت حتى يومنا هذا تمتص دماء المغرب والمغاربة.