التنشئة السياسية

بقلم:سامر أبو القاسم

بالنظر إلى ما تدنى إليه الفعل السياسي في المغرب

الحديث عن التنشئة السياسية هو حديث عن العديد من العمليات التي من خلالها يكتسب الأفراد ـ في مسار نموهم الشخصي ـ مجموعة من المعارف السياسية العامة والمواقف السياسية الخاصة بالقضايا والمسائل التي تهم أمور تسيير وتدبير الشأن العام وتستأثر باهتمام الرأي العام.
وبالقدر الذي تشير التنشئة السياسية إلى عملية التعليم المقصودة والممارسة من طرف مختلف الأطراف المعنية بها، وعلى رأسها الدولة عبر مؤسساتها وقنواتها التصريفية، حتى تصبح في مستوى الانتقال من جيل إلى آخر. بالقدر الذي تحيل على عملية التعلم الذاتي للأفراد، التي تجعل الفرد ذاته يتعرف ويستوعب ويفهم ويتمثل مجموع الأعراف والسلوكيات المقبولة وغير المقبولة داخل الثقافة السياسية للمجتمع، وبذلك تسهل عملية دخول الأفراد إلى الثقافة السياسية، وتتشكل ميولاتهم وتوجهاتهم بشأن الموضوعات السياسية المطروحة، سواء تعلق الأمر بالشأن الداخلي أو أمور علاقة المجتمع بالخارج.
وعملية التنشئة السياسية هذه، هي على قدر كبير من التعقيد، أكثر مما يمكن أن يعتقده البعض أو يختزله في الأدوار والوظائف والمهام التاريخية والدستورية والقانونية الموكولة للأحزاب السياسية؛ كمؤسسات ذات الاختصاص في عمليات التنظيم والتأطير والتوجيه والتمثيل للمواطنات والمواطنين. على الرغم من مركزية هذه المؤسسات من حيث التفكير المباشر في هذه العملية المعقدة.
فإلى جانب ضرورة استحضار حداثة سن الأحزاب السياسية في حالتنا الوطنية، مقارنة مع نظيراتها في البلدان المتقدمة، والعراقيل التي صادفتها هذه الأحزاب في إطار أداء مهامها طيلة عقود من الزمن بفعل المواجهات السياسية العنيفة والحادة، وصعوبات انغراسها في التربة الثقافية الوطنية ذات الطابع التقليدي المحافظ والمتوجس من مسارات التغيير والتجديد، فإن هناك العديد من العوامل الأخرى الخاصة بالتنشئة السياسية، ذات التأثير ـ وإن بدرجات متفاوتة ـ على آراء ومواقف وسلوكات الفرد السياسية، من قبيل الأسرة والإعلام والأقران والتعليم والدين والعقيدة والعِرق والنوع والسن والمجال الجغرافي.
وهي العوامل التي يتعرض لها الناس جميعا أثناء نموهم ونضجهم الفردي والجماعي، فتؤثر سلبا أو إيجابا في آرائهم ومواقفهم وسلوكاتهم السياسية طوال حياتهم. وبالتالي، فالمعتقدات أو على الأقل التقديرات السياسية تتشكل عادة أثناء فترات النمو المبكرة لدى الأفراد، وهي الفترات التي ينقل فيها الآباء والأمهات ما لديهم من أيدولوجيات إلى أبنائهم، جيلا بعد جيل.
وما لا يتم إدراكه، أو إدراك أبعاده، من طرف العديد من المشتغلين في الحقل السياسي، هو أن الأسرة تعد عاملا أساسيا مؤثرا في تطوير توجه الأطفال على المستوى السياسي، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى العلاقة الدائمة بين الأطفال وأمهاتهم وآبائهم.
كما أن المدارس تعد العامل الأكثر تأثيرا بعد الأسرة، نظرا للفترات الطويلة التي يتعرض فيها الأطفال لمعتقدات سياسية متعددة، مثل تلك التي يتبناها الأصدقاء والصديقات والمدرسات والمدرسين، وهما الفئتان اللتان تعتبران من مصادر المعلومات المهمة للطالبات والطلاب. إضافة إلى التقليد الديني لما يمكن أن يكون له من أثر بالغ على آراء الفرد السياسية.
علما بأن أغلب الباحثين يذهبون إلى أن الأحزاب السياسية لها تأثير مباشر بسيط للغاية على الأفراد نظرا للتباين بين العوامل الاجتماعية، مثل السن والسياق والسلطة وغير ذلك.
فبالإضافة إلى محاربة الفعل السياسي من طرف النظام السياسي ذاته طيلة فترات الصراع السياسي الحاد، وإخافة الأفراد والجماعات من مغبة الخوض في السياسة والانخراط فيها، والتشجيع الفلكلوري للمشاركة السياسية الداعمة للتوجهات والمواقف السائدة، التي لا زالت آثارها ترخي بظلالها على المشهد السياسي، وبأثقالها على الأفراد والجماعات من حيث التعاطي مع الشأن السياسي، فمشاكل التنشئة السياسية في حالتنا الوطنية كثيرة ومتعددة، بالشكل الذي يعقد أمر المهام المنوطة بالأحزاب السياسية، لأن الأمر ما عاد قابلا للحسم بشكل إرادي، بقدر ما أصبح يتطلب جهدا كبيرا على العديد من الأصعدة والمستويات.
فالمشكل الأهم على الإطلاق بالنسبة للتوجهات السياسية الكبرى على مستوى التنشئة يتمثل في الأسرة، التي تعلم الفرد القيم والميول السياسية ذات الارتباط الوثيق إما بمعاداة الفعل السياسي أو الولاء الأعمى لحزب سياسي معين خارج منطق عقلنة الاختيار. وتليها في ذلك المدرسة التي تنبني على أساس تعليم الأفراد شكل من أشكال الوطنية وقصص البطولات والملاحم التي ينبغي إعادة النظر فيها والتمحيص والتدقيق في حيثياتها. وتليهما وسائل الإعلام التي تدفع في اتجاه التشكيك الدائم في العمل السياسي؛ الحكومي منه والمعارض. والدين الذي يموقعه فقهاء آخر زمن في وضع التنافي مع السياسة والسياسيين أجمعين…

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد