بقلم: عبد العزيز كوكاس
“يلوح لي أنّني سأظلّ على الدّوام سعيداً في المكان الذي لست موجودا فيه، أو إذا شئنا المزيد من الدِّقة: حيث لا أُوجد أعثر على ذاتي، أو بالأحرى إذا شئنا المواجهة المباشرة: في أيّ مكان خارج العالم”.. بودلير
في كل لحظات الفواجع، كنتُ أصل متأخرا عن الموت ببضع ثوان فقط، لم أحضر جنازات أصدقاء حميميين، لا لأُراوغ ذاكرة الموت لعله يُسقطني من قائمته؛ بل لأني أحس دوما بأن قنصي جدُّ سهل، يكفي أن يتفوّه الموت ليصلني ريحه الأصفر القاتل، وأحيانا أخرى أشعر بأني والموت خصمان لا يمكننا أن نقيم في المكان ذاته في الوقت نفسه، أحسه بقطفه لأُلاّفي أن سهمَه أخطأ قليلا نبض قلبي، وأنه يقتلني بالتقسيط المريح من خلال خطف من يُبهجني حضورهم..
ما معنى أن تبقى حيا بعد أن قُدتَ أقرب الناس إلى قلبك نحو خاتمتهم، وخلا زمانك منهم.. إنه ألم الأحياء لا الأموات الذين لم يعد يعني لهم الزمان شيئا، والمشكلة هي دوما مشكلة الأحياء لا الأموات الذين رحلوا وما عادوا قلقين على العودة أو على طرح سؤال كيف سنعيش؟
ما معنى أن تحيا؟
هو هذا السؤال الحارق الذي ظل يطاردني كلما واريتُ جثمان من أحب، مع فائض من الألم المصاحب لي كحارس لكل الغائبين، لم يعد للنسيان أية بهجة، وخيالات الصور التي ظللتُ أحفظها لكل من فقدْتُهم لم تعد لها تلك اللذة الإيروسية للامتلاء بالفرح. لقد خانني الصبر مثل انجراف نهر عن خط مجراه.. أريد أن أُعَرِّفَ موتي، فكل شيء يُعرّفُ يُضبط، يؤطر، يصبح خارج الحياد.. نعم، لا يقودنا التعريف نحو الخلود، أو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود؛ لكنه على الأقل ينقذنا من العبث، يرسم المعنى حتى لو كان رحيلا أو عتمة، لكن ماذا بوسعي أن أفعل وقد امتلأ العالم من حولي بالغياب الذي أصبحت حارس بوّابته؟
عليّ أن أتصور موتي حالا قبل الأوان، أؤثّثه بعناية فائقة، أنا الذي أعرف أني سأموت ويجب أن أفكر في ذلك بعمق، ولي وحدي أن أفكر كيف سأموت.. عليّ أن أتألّم موتي وأتأمّله.. كما تأمله بول ريكور وهو يرى احتضار زوجته سيمون ويتساءل: “ماذا يمكنني أن أقول عن موتي؟ ولكن ما هذا الموت الأكثر واقعية من حياتي؟… لأن علاقتي بالموت غير منتهية الصلاحية بعد. هي علاقة مُحتجبة، مطموسة، مُضعَفة باستباق سؤال مصير الأموات الذين هم موتى قبلا.. إنه ميت الغد، المستقبل القريب الذي أتخيّله، وصورة الميت التي سأكونها بالنسبة للآخرين، والتي تريد أن تحتل كلّ المكان”.
وأنا الذي رثيتُ الكثير من الأحبة، كنت كلما أودعْتُهم اللّحد أدفن جزءا مني، أعدّ جنازتي وأنا أدفنهم واحدة واحدا، وأهيئ كفني وقبري وأنا أُحييهم في كلماتي؛ فالموت مثل الحب يأتي بلا استئذان حتى ونحن نعرف أننا سنموت حتما.. أو كما قال أبيقور: “لا خوف من الموت؛ لأننا حينما نكون نحن، الموت لا تكون، وحينما تكون الموت نحن لا نكون”.
بعد توالي الغيابات في سلالتي وأصدقائي، وحين سيرحل كل من يُبهجني حضورهم، ماذا سيتبقى للموت ليتسلّى به؟ ألن يصبح عاطلا بلا معنى لوجوده؟ حين لن يعود هناك من يهابه أو يهدده، ألن يتولّى أمر ذاته بنفسه، كيف سيكون موته، لا دموع، لا آهات، لا حزن عليه، لا ألم ينقذه من الفراغ؟ لو يخجل الموت قليلا.
لذلك ونكاية فيه، عليّ أنا الحيّ الآن، أن أُجْري تدريبا على موتي، كما يفعل الممثلون قبل تقديم أيّ عرض مسرحي أمام الجمهور، فـ”لا يمكن أن يكون الموت صعبا إذ حتى الآن لم يفشل فيه أحد” (نورمان ميلر)، عليّ أن أعد جنازتي كما لو كنتُ الميّتَ بعد حين، أحاول أن أفتح عيني لأرى من حضر موتي في جنازة الخيال، وأتوارى في الغياب، لا أحب أن أغلق باب الحياة بعدي، فالشمس ستشرق هنا غدا وهذه الوجوه الشاحبة والمآقي الدامعة ستعود إليها بسمة الحياة الوردية، ويعود الوجود إلى دورته الطبيعية..
نفضتُ عن روحي بعض الغبار لأستطيع أن أسمع همسي، لم يكن هناك غير الصدى، لملمتُ أحلامي، هدهدْتُها قليلا لتنام واستسلمت لعتمتي لأذهب إلى قبري بكامل اليقين، أحسني برغم ثقل السنين، طفلا نزقا، حريتي دليلي
روحي مثل قبو تتكدس فيه الفوضى بانتظام مثل أدراج المباني القوطية
أنا من أعطى للطيني فيّ روحه وشكله
من سمّاه وأعلاه فوق الجمر نيّئا
أنا من منحه حزنه وفرحه
ضوءه وظله..
أنا من جعلت الطين فيّ يشبهني
ونفخت فيه من روحي حتى استوى
وسرقت له تأوّه الريح وغواية رقص الوردة
وكلما آوى إلى عتمته
دثّرتُه بدفء الأساطير الأولى، وأول الكلام علّمته..
ليكون له لسان للتأوه والحكي
وحين شاب وشاخ.. كان موت واحد ينتظرنا
موت لا يتسع لاثنين، إذ هما في غار الرهبة وآخر العمر
فديتُ الطين فيّ، وتركت له سماء يقطع بها شراب سكره
وأرضا يطويها ويتأبطها مثل سجادة
ليُطل على صمت الظلال.. وقررت الرحيل.
ركبني الموت حتى أصبحت مثل فزّاعة تؤنس الغربان وحشتها… دبيب مخدر يسري في قدميّ ويصعد رويدا ليوزّع برودته بالتساوي على كافة مفاصلي، غاب صوتي، ما يتردد في جوفي اللحظة، مجرد ريح غامض يخرج مثل الشخير، آخر الزفرات، تصل رائحة الموت تدريجيا إلى كل خلاياي، وما تبقى من هواء يخرج من فمي مليئا بالتجاعيد، زُرقة شاحبة تعلو جلدي، بدا الرعب في عينيّ متلألئا، يشبه ذلك الذعر الذي ينبت في عين الغزالة لما تحس بخطر الصيادين من حولها.
يتحرر جسدي رويدا رويدا من المكان وأسر الزمان، يطير بعيدا مثل فراشة تتحرر من شرنقة دودة القز، لولا صرخة الألم والعيون الحزينة المتحلقة حول جثماني، لاعتقدْتُني في حلم، أيقنتُ أنني أسير نحو حتفي.. مثل صرخة الميلاد جاءتني الحشرجةُ الأخيرة، وَهَنُ جسدي يُضعف صرخة الألم في داخلي.. فللموت كثافة جليلة، لا تنفع معها محاولات مقاومة العزلة ولا ترويض الذاكرة على النسيان. وددت أن أخاطب الموت بلهجة ساخرة كما فعل شيشرون وهو يصرخ في طليقته ترنتيا: “اذهبي من هنا واحملي كل ما هو ملك لك”.
في الاحتضار القاسي حين كنتُ على عتبة الموت، أحسست بأن عليّ أن أختزل كل اللحظات، أن أسترجع ماضيّ على شكل وميض برق سريع الالتماع، وأنظر إلى حاضري بعين شرهة تحاول تأمل كل التفاصيل الدقيقة، إنها لحظة الحشرجة بين الحياة والموت، لحظة الحياة قبل الموت أو الحياة على وشك الموت، في لحظة الانحلال هاته، يبرز التأمل كتجلّ أسمى للخلود، مثل محكوم بالإعدام لحظة تنفيذ الحكم، عليك أن تسترجع اللحظات الطفولية الجميلة المتوهجة في حياتك لتُديم النظر في الوجه العزيز للحياة التي توشك على الانطفاء، وتأمل أن يحدث خلل ما في سير الوجود يُوقف سريان حكم تنفيذ الموت.. فالوقت القليل الذي تبقى لنا في الحياة، هذه الثواني القليلة، حتى ونحن نحتضر أهم من كل العقود والسنين التي انصرمت.
حين كانت الروح تتحلل بتؤدة أدركت أني دخلت في عتمة اللامرئي فجأة.. لا شيء غير الرمادي هنا، فقدتُ اللغة أولا، لا لسان لي هنا، لا ذاكرة ترشدني إلى ما كنته وما أصبحت عليه وأنا أدخل السبات العميق، والموتى جيراني يتهامسون وَجِلين من حولي في ركن قصي من العالم السفلي.
لا أقوى على رثاء نفسي، تحضرني حنا أرندت وهي تصرخ فيّ: “الناس لم يُخْلَقُوا من أجل أن يَمُوتُوا وإنما خُلِقُوا من أجل يَخْلقُوا”. فأستعيد جاهدا ما تبقى من غمام في ذاكرتي لأحيا موتي بكامل البهاء.
أتذكر مرة في حادثة سير، انقلبتْ بي السيارة، تدحرجت مرتين بجانب وادي ما زلت أسمع هدير مياهه حتى اللحظة، فقدتُ نظّارتي، عجلات السيارة وحدها كانت تدور في الهواء بعد أن انطفأ المحرك، لمستُ كل أعضاء جسمي شلوا شلوا.. كلها كانت في مكانها بلا خدش، ثم استسلمتُ لإغفاءة قصيرة ورأسي أسفل جسدي، كمن يريد أن يعتقد بأنه ينام برهة وأن ما حصل كان حادثة حلم يقظة فقط، فالنوم أخو الموت وصنوه، من يومها شغلني الموت ليس كنقيض لحياتي بل كامتداد لها فقط، فكرتُ فيه كرزنامة زمنية، وها أنا ألجه كفضاء.
تقف بين يدي ابنتي الطبيبة، ألمس في عينيها عتابا خفيا، وهي التي ظلت تحذرني من شرَهِ التدخين وشَرّه وصوتها يختنق بالدموع: “هل تعتقد أنك ستموت دفعة واحدة وينتهي الأمر، لا ستشتهيه مثل قطعة شوكولاتة ولن يأتيك، ستتمنّاه كرحمة ويخذلك، ستحسه مثل مشتهى بعيد، ستناجيه مثل حبيبة صرمَتْ حبل وصالك، ستستمر الحياة ضعيفة في شرايينك مثل أشواك برية وتتألم بقسوة، ستعيش موتا طويلا بحياة أقل”، كنت أومئ لها برأسي، أن كل واحد يؤثث موته بالشكل الذي يريد، وأرى الدمع المتلألئ في مؤقيها..
كيف سأعيد هنا خلق لغة لأتملّك كينونتي ولتصبح للأشياء ذاكرة، كيف لي أن أخلق لغة حية لكائنات ميتة، لأُخْرِج هذا العالم السفلي من وجوده الغُفل كما في مرويات الأساطير، ليكون له معنى، ويُنقذ ذاته من النسيان؟ لا أميل اللحظة إلى أية عدمية حيث “تفقد القيم الأكثر سموّا قيمتها”؛ بل أود الشعور بالانتماء ولم لا التملك، تملّك المكان والزمان لتكون لي هوية تُشعرني بالوجود حتى وأنا في قعر العدم… كيف بإرادتي الحرة يمكن أن أعطي معنى لمن فقد كل قيمة هنا، وأن أُعيد تشكيل الأشياء بحرية وبحب.. أود أن أسمي الأشياء من حولي لأكون سيّد اللّيس، أليس الوجود – حتى لو كان عدما– حرب تسميات كما ألْهمنا نيتشه؟ كيف أسمي الحقيقة وأربّي الوهم وأرعاه لينهار السياق بين الأسطورة والتاريخ، بين الهُنا الذي كان يوما هناك، لينزاح قليلا ذلك الخيط الدقيق بين الوجود والعدم، بين الأولى والآخرة؟
لا حديقة هنا، لا زهرة، لا حبة كرز ولا أثر فراشة، لا ريح تُوقظ الحنين في الأوصال، لا بلاغة للوصف، كل شيء يبدو حادا مثل شفرة حلاقة والغبار المنتشر في الهواء يترك غصّة في الحلق، لا مرئي، لا مُسمّى… كلنا جُرّدنا من أسمائنا الأولى ومما نسجته دودة القز من حرير أثوابنا، كيف نلج الغموض في أرض عطشى للوضوح الجلي والضجر، عتمة مثل العماء الأول لبداية الكون؟ لا موعد غرام، ولا رائحة قهوة في الصباح والجو رطب، كل شيء جارح.. الهواء، الصمت، الفراغ والخذلان..
لا تلال هنا ولا هدير شلال، لا خرير مياه ولا ظل كرمة ولا دالية، سوى المدى الواسع من العماء الأبدي. كم أشتهي اللحظة قرصانا جسورا يتصيد سفينة، قطرة ندى تشع أملا على خد وردة، سرابا يتلألأ كدليل توهّم حياة، أشتهي أرضا لقيلولة الصيف، في مدى أشبه بالمنفى القسري.. ثمة حلقة مفقودة بين ما كنتُه وما أصبحتُه الآن؟
ماذا يفعل الموتى عادة بعد رحيلهم؟ هل يعملون؟ هل يحلمون؟ هل يتسامرون ويحكون؟ هل يتأفّفون من هذا العدم المحيط بهم مثل أنشوطة حبل الإعدام؟ هل ينسجون الوهم لمواجهة ملل الوقت؟ كيف سأكمل هنا ما تبقى من عمري في الممات؟ كيف سأكتب مذكراتي بلا ضوء ولا حبر؟ من أين لي بالنبيذ الموعود قبل الحشر.. اشتهيتُ أن أنفخ في مرآة أملأها بضباب أنفاسي لأحس أني، وأنا الميت، لا زلت على قيد الوجود، بعد أن نزلتُ إلى العالم الهاديسي.. حيث الحداد بلا حدود، والجو مالح. لا نهد امرأة يثير الرغبة في جلمود صخر، لا بعوضة تلسعك لتشعرك بحيوية جلدك وبسلامة دورتك الدموية.. لأن لا دم هنا، لا ذباب يطنّ ليُهيّئك للصراع والحرب.. كل شيء صامت مثل مقبرة كبرى. ومع ذلك أحس بأن لا شيء ينقصني غير حيز للكتابة وسيجارة برغم الخرم في حنجرتي ووجه من أحب وكأس نبيذ في خاطر من عبروني بأثر طيب ومكان للصلاة من أجل أمي وروح أبي.. إلاهي هل طلبت المستحيل؟
لا شمس تشرق بشهوة الحياة وضياء النور، لا شجن هنا ولا أثر مرح، لا نص للتمثيل، لا مسرح، ولا نسمة لخطيئة الخروج من نعيم إلى جحيم، أين الأولى والآخرة في هذا السفر الصامت؟ لا شيء سوى الرمادي الغامق، كل الحواس تبدو خاملة، أريد أن أهجو هذا العدم بكلام يليق بالخدوش التي تركها فيّ… أخطر ما يمر به المرء هو التتابع القاسي للوحدة اللانهائية أو الإحساس بسطوة الخلو من المعنى، الفراغ!
ما القاسي في الموت؟
الغياب، الرحيل، اللّيس والعدم، الفراق، الصمت، انهيار الكينونة، بلاغة الوداع…؟ كيف نؤثث للموت جغرافيا وتاريخا يليقان به؟ كيف نصنع له زمانا ومكانا يحيا فيه بعد موت ونُنقذه من الوصف المأساوي؟ للموت أيضا صورة الخلود، من خلّد من حتى بعد موت: نيرون أم روما المحترقة، سنيكا ولوكان وبترونيوس الذين مزقوا أوردة أيديهم وانتظروا الموت على ناصية الجرح أم الطاغية الذي جلس يتفرّج على نهاية هؤلاء المبدعين الرومان بنشوة المنتصرين؟
سأستحم في نهر الليثون لأنسى كل ما كنته، لعلي أبني ذاكرة هنا، بلا وجع الرحيل والفقد، وأتعلم كيف أرثيني بلا كلمات ولا وجع للحزن، أليس الرثاء مديح الميت؟
اختبرتُ القليل من كل شيء، وظللتُ أرتكب المزيد من الأخطاء قبل أن أموت.. عشقت، ياه كم هويتُ بجنون، يا لنعمة العشق هناك، جنّة الدنيا وملاذ الحالمين، فيه كنت أدفن ضجَر الحاجة وقسوة الفقر، وبؤس ثقلاء الأرض، وهو الذي يهون عليّ موتي اللحظة، لأني كم متّ عشقا بصدق الأنبياء. ألم يقل ابن عربي إن العشق موت صغير؟!
ظللت أومن بأن الناس مثل الأزهار، بعضها شائك ينفث رائحة زَنخة وبعضها ناعم الملمس يتضوع أريجا طيبا، وأن المرء لا يخسر، حين يعلن عن القليل من حبه الكبير للآخرين، غير أنانيته، وكان ألذ إليّ أن أبكي كحمل وديع بدل أن أعوي كذئب مفترس.
حتى في لحظات قسوة الزمان وأهله ما ضعفتُ ولا خنتُ.. طول العمر كنت وحدي وكتبي، مستغنيا عن العالم بعد أن صادقتُ نفسي ورافقتُ عزلتي.. ظلت أمي تنصحني دوما بحكمة صوفي: “من يسر في عتمة داخله بلا ضوء خارجي، يصل.. من لم يتعدد في وحدته، فليغادر عزلته نحو ضجيج الحياة.. من يرى ما لا يُرى، حتى لو كان تائها في البيداء سيشعر كأنه بحيرة في دمعة، بئر في قطرة ندى، متاهة صحراء في حبة رمل”.!
ورثتُ لوثة السفر عن والدي الذي علّمني أن من يسافر يزدد غنى رغم كل ما يسرف، من يسر باتجاه المدى البعيد يؤاخي ذاته، من يذهب بعيدا يكون أقرب إلى نفسه والكون على شساعته يسكن قلبه. لذلك، ظللتُ جوّاب آفاق أبحث عن نفسي في ذوات متعددة وعوالم شتى..
كنت دوما عليلا بالحب أو المرض أو الحرمان، في تربة جسدي -الذي كنت أحيا به- ظل ينبت الموت مثل الطفيليات.. لكن لي نَفْس بقوة جُموح الفرس، عنادي اتجاه كل الخيبات التي مُنيت بها كان بلا حدود، يؤرقني ويستفز جميع الخلايا النائمة في روحي، تعلمت فن تدوير الكلمات وسحر أثرها، عشقت الليل وآخره بجنون.. كنت نحيفا مثل ساقي طائر الكركي، حتى أن أقل نزوة ريح كانت تسحبني معها بعيدا، فأراني في الأفق محلقا.
عشقت البحر حدّ العته، كان لي خِلاّ وموطن أسرار، آه لو فتح فمه وباح.. ومنه ورثت الغضب العاصف والصمت الجليل، عشتُ على مسافة قريبة من الموت في أحضان أمواجه الهادرة والمتلاطمة التي كانت تُريني الجغرافيا العميقة للعالم السفلي، أنقذت غرقى كانوا في النفس الأخير. لذا، عشت الموت كاتصال لا كانفصال. وها أنا اليوم ميت، دخلت عالم اللَّيْس، وأشفق على من حلّت فيه روحي؛ لكني فرح بأن أكون، فكما قال فيشتر: “كل موت في الطبيعة ميلاد؛ ففي الموت، تحديدا، تصل الحياة ذروتها