عن أصلان .. و « قطط اسطنبول » و الأفكار المُجنّحة

كتب: لخضر خلفاوي

كنتُ أقول دائما أن « الأفكار كما النّاس تختلف درجات كرامتها و كبريائها.. و وفائها أيضا”، أي ـ الأفكار خائنة ـ كما البشر.. أليس الإنسان فكرة الله المقدسة ؟ أليس الإنسان ميّالا للخيانة و الإنحراف و الأبوق و العصيان ؟ أعود إذن إلى ما كنتُ أقوله مذ القرن الماضي في هذا الصدد؛ أي إذا راودت فكرة ما كاتبا ما فحسب هذه ـ الدرجة الكبريائية أو الوفائية ـ ترتبط زمنية بقاءها عنده و لا تطير منه إلى أحضان ذهن مبدع آخر.. لست أتحدث هنا عن ” التخاطر بالمفهوم النمطي الكلاسيكي “، فالأمر أعمق بكثير من التخاطر. قد يكون الكاتب الآخر الذي طارت إليه الفكرة و قالت له « هيتَ لك» يسكن في أقاصي أمصار الأرض، و قد يكون أعجميا، غربيا و ليس بالضرورة عربيا أو ما شابه ذلك! الأفكار كما البشر « فيها المستعجل » و فيها المتزن و فيها المتأنّي.. عرفت ذلك في أوّل صفعة رمزية عنيفة من القرن الماضي من قبل فكرة اجتاحتني و تملّكتني و كادت تختمر فكرتها في ذهني الإبداعي؛ إلا أني لظروف ما تناسيتها أو أهملتها ، ربما ظررف البلد وقتها هي التي جعلتني أُهمل الآنسة (الفكرة) رغم أنها وهبتني نفسها على « طبق من ذهن » كان مشدوها شاردا قلقا بسبب عنق الزجاجة الذي كان يخنق بلدي المتخبط في فوضى أمنية خلاّقة! الفكرة اسمها « أُستاذي الحُزن! » ، لمّا كانت الأرواح البشرية البريئة تُزهق كما القطط .. لاداع أن أشرح لكم ثيمتها لأن الكلمتين كافيتين وافيتين في رفع لبس ما كنت أنوي كتابته في المجال الإبداعي بعيدا عن إرهاصات العمل الصحفي وقتها.. حدث ذات يوم و أنا كعادتي أمر بساحة وسط المدينة أقصد مدينة « تيفيست Théveste» العريقة| أي تبسة الحالية كمدينة حدودية مهمة من شرق البلاد .. وجهتي كانت معروفة حسب طقوس صباحاتي و هي معرض الصحف و المجلات ـ المرمية ـ على الأرض في وقت كان على القارئ و المثقف أن ينحني لكي يحصل على عنوانه من عند باعة هامشيون بفعل تهميش الظروف ، متجولون .. اقتنيت عناويني المفضلة أولها صحيفة “القلاع” الأسبوعية التي كنت أدير تحريرها و نشرها.. كانت جريدة « كريستال » حديثة الميلاد وقتها و أنيقة و رشيقة تُعدّ و تُحرّر من قبل خيرة كتاب و صحفيين تلك المرحلة و هو طاقم منشق بعضه عن أسبوعية الشروق و صحيفة « الصح ـ آفة » المُعلّقة إذا لم تخني الذاكرة. الصحيفة كانت ثقافية، فنية و شاملة لكن لهجتها السياسية هي التي استقطبت ميولاتي القرائية.. حال اقتنائي لنسخة من هذه الصحيفة الفتية بقيت للحظات بلا صوت و سبب ذلك عنوان نصّي الذي لم أكتبه و لم يعلم بمشروعه أحد و الذي لم أبدأ بعد ورشة كتابته: « أُستاذي الحزن! » بالبنط الجميل العريض ؛ آخر قصائد « لخضر خلفاوي »! كنت أقرأ هكذا العنوان قبل أن استيقظ من خيبتي و على صدمة « الخيانة العظمى ».. نعم الفكرة ملّت انتظاري و كانت مستعجلة لترى الأَضواء و يشار إليها بالبنان و ضاقت ذرعا بي و بفوضى الوضع الذي يرفض أن يتغيّر .. هي فكرة من نوع و صنف آخر ، تريد أن يعتنى بها من قبل رجل أو شخص آخر مهتمّ ـ بْيَفْهَمْ – في طلبات و رغبات الفِكر التي تفضل الظهور في أقرب فرصة… اكتشفت أنّها استقرّت في أحضان فكر و عقل المبدع الشاعر العربي السّوري « نزار قباني ».. هكذا كان العنوان الصافع لي : « أستاذي الحزن.. آخر قصائد نزار قبّاني ».. رغم حبي لهذا الرّجل الاستثنائي إلا أنّي كرهته للحظات و اختلقت عندي خلفية وامضة لو لم أتدارك ذلك الموقف السريالي و جنوني اللحضوي و ابتسمت فورا بغصة كبيرة لكنتُ وقعت في مشكلة عدمية يتأسس عليها الحسد العقيم! كانت درسا قويا إذ فهمت من خلاله أنه لا يجب أن نهمل الأفكار و علينا الحفاظ عليها و إحاطتها بكل الظروف كي تعمّر فينا قبل أن تنطلق مُخصّبة مجددا إلى الضوء بلمساتنا و توقيعنا.. دون ذلك فهي مرشحة أن ـ تطفش منا ـ في أيّ لحظة.. لا تبقى إلا الأفكار الوفية و التي لها صلة مباشرة بنا مذ النشأة…. ** كلّ قولة من أقوالي في شأن « الأفكار » مرتبطة بحادثة ما.. في هذه الألفية كنت أقول أيضا أن « الأفكار الجيّدة تُدافع عن نفسها و عن أصحابها » .. هنا أتحدث عن ـ آية الوفاء الفكري ـ المرتبطة بالكتاب الحقيقيين… هذه المقولة أو الدرس المهم بالنسبة لي جاءت بعد تجربة مع كاتبة من هذا الجيل ( الأف-تراضي) و – يُعتقد أنها مبدعة !- كانت تنشر في صحيفة ( الفيصل ) الباريسية التي أديرها و أسستها قبل سنوات، و بفضل تجربتي الإعلامية الطويلة مذ القرن الفائت و تجربتي في إدارة التحرير ورقيا و رقميا أعرف من خلال ـ الحدس المهني و التجاربي – المُكتسب أسلوب كلّ كاتب و هفوات كل مبدع .. فكنت أقرأ مادة وصلتني من هذه الكاتبة و هي عبارة عن انطباع و قراءة نقدية .. لا أدري أنّ صوتا ما بداخلي كان يقول لي “هذا ( النّص ) ليس لها .. هذا النص مسروق ، احذر يا خضر ! )، لأنّي فقهت بأعجوبة تغير جذري في اللهجة السردية و في الهندسة التعبيرية للانطباع .. لكنّي وافقت بتردد شديد بمرور النص و نُشر في الفيصل باسم الكاتبة ( السارقة )!.. لكن جفن ضميري لم ينم و بقي ذلك الصوت يزعجني ، يتردد بين الحين و الآخر في أدغال فكري .. لمّا اشتدّ تعذيبي من قبل ذلك الصوت القوي أُوحي إليّ أو أُلهمت و أُهتديت إلى عملية البحث و التحقيق حول – أصول و فروع و منبت و مسقط رأس تلك الأفكار التي نشرتها باسم شخص كنت أشكّ بعدم مصداقية ملكيته الفكرية العلمية … عند هذه العتبة من النية في إحقاق الحق سخَّرتُ كل الوسائل التقنية مستعملا الشبكة في وضع تقاطعات بحثية للحصول على أدلة و قرائن تتصل بأصول الفكرة .. الأصول أصول و الفكرة الأصيلة كما البشر تماما تعود دائما إلى أصلها !..و لو أننا من أصل واحد إلا أني أقول -اعتقادا أو غرورًا – أنا ابن أصول و أحب الأصول الطيبة فلا ضير في ذلك أن يفتخر الواحد منا بذلك في حدود المعقول و التواضع ! كان ذلك النّص مبعث فضولي و شكوكي مكتوب بشكل جيد جدا و يكتسب كل أدوات الكتابة الأكاديمية

 

 

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد