بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
أليس من حقنا ونحن على أعتاب عيد الأضحى المبارك أن نرتاح ونستجم، وأن نسترخي وننام، وأن نستبدل ثياب العمل بأخرى، فضفاضةً مريحة، زاهيةً جميلة، رسميةً أو عادية، فنأخذ قسطاً من الراحة من عناء الحياة وما نواجه، ومن كد العمل وشقاء الشغل، ومن سيل المشاكل، وهجوم التحديات، وغول الطلبات، وقائمة الاحتياجات، ومستجدات الأطفال والطلاب، ومتطلبات النساء والأزواج، وسلم الأسعار الذي لا يتوقف عن الارتفاع والصعود، ولا يعرف أبداً التراجع أو الهبوط، فلا يرحم ولا يتعاطف، إذ يشمل كل شئ، ولا يستثني الخدمات ولا الضروريات، فضلاً عن الكماليات، في جدولةٍ دائمة، حاضرةٍ لا تغيب، يحسن المسؤولون وصفها، ويكثر المستفيدون من صرفها، في الوقت الذي تجمد فيه الرواتب ولا تزيد، وتقل فيه فرص العمل وتتضاءل آفاق الوظائف، وتضيق البلاد على أهلها، ويحرم سكانها من فيض نعمها وسابغ خيراتها.
أليس من حقنا أن نرتاح من ملاحقات أصحاب الحقوق، وتهديدات الدولة ومؤسساتها، بإهمال المهمشين، واستثناء المناطق البعيدة، وقطع التيار الكهربائي، أو فصل الهاتف، والكف عن جمع القمامة، أو تسليك شبكات المجاري، أو تعبيد الطرقات وإنارة الشوارع، أو الامتناع عن تقديم الخدمات التي لا تقدم، وأن نطمئن إلى أننا لسنا بحاجةٍ إلى بذل جهودٍ ونفقاتٍ إضافية، لإصلاح شبكة المجاري، وأنابيب المياه، وخطوط الكهرباء، ودلف البيوت، ورطوبة الجدران، وهجوم الحشرات، وغزو الجرذان، وانتشار الأوبئة والأمراض، رغم أن الضرائب من أجلها تفرض وتجبى، والرسوم تحدد وتتعدد وتدفع، إلا أن شيئاً من الخدمات التي فرضت من أجلها لا تؤدى ولا تقدم.
ألسنا بحاجةٍ إلى فترة هدوء، نريح بها أجسادنا، ونهدئ نفوسنا، ونختلي بها مع أنفسنا، نراجع ما مضى، ونحاسب أنفسنا على ما أسلفنا وأخطأنا، ونعاتب ذواتنا إن قصرنا وتأخرنا، ونخطط لما سيلي من مستقبلنا، لنا أو لأجيالنا، وفق قدراتنا أو أملاً في غدٍ أفضل لأولادنا، اعتماداً على وعودٍ لا نملك إلا أن نصدقها، أو نأمل فيها، علها تصدق يوماً، وتخيب آمالنا وتتحقق، إذ أن لأجسادنا علينا حقاً يجب أن نؤديه، وعيوننا التي أصابها الذبول، وأحاطتها هالاتٌ من السواد، من حقها أن تعود نضرة، وأن تشرق وتبهج من جديد، وأن يعود إليها بريقها القديم، الذي لازمها مراحل الطفولة والصبا.
أليس من حقنا أن نأخذ إجازةً بلا همومٍ وأحزانٍ، وبلا أوجاعٍ وآلام، فنتفرغ خلالها لبيوتنا وأسرنا، ونجلس مع أطفالنا، ونبر أمهاتنا وآبائنا، ونصل أرحامنا، ونزور جيراننا ومعارفنا، نخرج ونلعب، ونجري ونلهو، ونسعد بصحبة أطفالنا وصغارنا، ونسائنا وبناتنا، ونأخذ معنا حاجياتنا وطعامنا، علنا نتخلص من هموم الحياة التي لا تتوقف، وصعاب العيش التي لا تنتهي، التي تلاحقنا كالكابوس، وتلازمنا كالظل، وتقضي علينا وتنتشر بيننا كالطاعون.
أليس من حقنا مثل غيرنا من البشر أن نأخذ إجازة، ونخطط لرحلة، ونسافر بعيداً إلى مناطق مجهولةٍ لا نعرفها، نسمع عنها ونتمنى زيارتها، ونحلم أن نتجول فيها ونستكشفها، ونأخذ في معالمها صوراً تذكارية لنا، ونترك فيها بعضاً من آمالنا وأحلامنا، ونقول لغيرنا إن عدنا ورجعنا، أننا كنا هناك، ومررنا في تلك البقاع، أم أن السياحة والزيارة حكراً على غيرنا، ومقصورةً على سوانا، فلا يحق لنا أن نستمتع بجمال بلادنا، ولا بالطبيعة الخلابة التي من الله بنا علينا، والاستمتاع بالآثار الباقية التي تؤكد أن التاريخ كان لنا، وأن الحكم كان بأيدينا، وأن العالم كله كان يدين لنا، ويخضع لحكمنا، ويقدم الولاء والعطاء لنا.
يقولون لي أنت حالم أو مخمور، أو جاهلٌ غير بصير، أو أنك كاتبٌ غرٌ صغير، ولست بالحقائق عليمٌ أو خبير، كأنك تعيش في عالمٍ آخر، وبلادٍ غير بلادنا، فهي ليست المدينة الفاضلة، ولا بلاد المن والسلوى، ولا هي أرض الحليب والعسل، ففي أرضنا لا مكان للسمر ولا للسهر، وليس فيها ساحةٌ للعب واللهو، ولا حديقةً فيها للتنزه أو استنشاق الهواء النقي، وليس فيها متسعٌ من الوقت للرحلة، ولا وفرة في المال للتسوق، ولا فائض في الصحة للعب والجري، ولا تقدير لحاجات الطفل وضروريات المرأة، ولا احترام لخصوصية أو قدسية لملكية، ولا محرمات في الأمكنة أو الأزمنة، ولا حصانة للأشخاص أو القيم.
في بلادنا لا توجد ضماناتٌ للحريات، ولا رعاية للحقوق، ولا صيانة للنصوص والحدود، ولا سمو للدساتير أو نزاهة في القضاء، ولا حق للمطالبة بالتغيير، أو السؤال للتحسين والتطوير، إنما يكفيك في هذه البلاد أن تعيش فيها قبل أن تموت، تأكل ما يكفي للعيش، وتنام على شقٍ من الأرض يكفي لتقلب الجسد، تعمل لتأكل، أو تتسول لتعيش، وأن يكون لك في بلادك حق الاعتقال مكفول، وحق الإهانة والتعذيب مضمون، فلا يحرمك مسؤول من حق زيارة السجون نزيلاً، أو الحلول في أقبية التحقيق معذباً، فهذه ميزة نبز بها المواطنين في الغرب، ونباهي أنها فقط موجودة في بلادنا، وغير متوفرة لدى غيرنا، ولا يحق لغير مواطنينا التمتع بها، أو الحصول عليها، فهي خدمةً خاصة بالعرب والمسلمين وأتباع العالم الثالث كله.
قلتَ لنا أنك ستكتب بعيداً عن السياسة، وستنأى بنفسك وبنا عنها، وأنك لن تخوض معنا في غمارها، ولن تحدثنا عن حروبها وويلاتها، وأنك ستأخذنا إلى واحةٍ فيها نستريح من وعثاء السياسة، وكآبة السياسيين، وسوء منقلب الحكام والمسؤولين، ولكنك خدعتنا وأخذتنا إلى مستنقع السياسة، ووحل العاملين فيها، ووكر المتآمرين علينا، فأوجعتنا بآمالك، وآلمتنا بأحلامك، وآيستنا من أوضاعنا، وأقلقتنا على مستقبلنا، وأكدت لنا أن السياسة معنا ومن حولنا، وأنها من فوقنا ومن تحت أقدامنا، لا تتركنا وشأننا، ولا تقبل أن تكون معنا وفي خدمتنا، وإنما تتآمر علينا، وتعمل ضدنا، وتتعامل مع عدونا علينا لتبقى وتدوم، وإلا فإنها تزول وتروح، فبقاؤها به منوطٌ، وعليه قائم.