بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا يوجد معتقلٌ في السجون والمعتقلات الإسرائيلية لا يشكو من مرضٍ أو علةٍ، ولا يعاني من مشكلةٍ أو ضائقة، أو لا يعيش أزمةً أو محنةً، فلا سليم أو معافى، ولا صحيح أو قوي، بل الكل سقيمٌ ومريضٌ، إذ أن ظروف الاعتقال وقوانين السجن ومعاملة إدارة السجون، تخلق للأسرى والمعتقلين ألف علةٍ ومرضٍ، وتسبب لهم أشد المعاناة وأسوأ الشكوى، وهي سياسةٌ مقصودة، ومنهجية متبعة، وإجراءاتٌ منظمة، يقصد بها العدو تحطيم إرادة المعتقل، وتدمير صحته وعافيته، وتعريضه للإصابة بأشد الأمراض وأصعبها، أو تعميق المرض في حال وجوده، وزيادة الخطر ومنع العلاج وتأخر الشفاء.
ولعل سياسة العزل والظروف والأماكن التي تتم بها، هي واحدة من أهم أسباب انتشار الأمراض بين المعتقلين، ومضاعفة ألامهم، وتردي أوضاعهم الصحية بصورةٍ عامةٍ، إذ أن برد زنازين وإكسات العزل شتاءً، وارتفاع حرارتها ورطوبتها الشديدة صيفاً، يسبب أمراضاً عديدة للأسرى والمعتقلين، ولعل أشهرها أمراض العظام والروماتيزم والتهابات المفاصل وآلام الظهر، والأمراض الصدرية خاصة الأنفلونزا والرشح والتهاب الحلق ونزلة البرد وغيرها من الأمراض، فضلاً عن معاناة الأسرى المرضى والأصحاء من زمهرير الشتاء، الذي ينخر عظامهم ولا يجدون ما يصدون به شدته، علماً أن بعض السجون والمعتقلات التي تقع في مناطق الضفة الغربية باردة جداً خلال أشهر فصل الشتاء، حيث يوجد في أغلبها زنازين خاصة معدة للعزل الانفرادي.
ومن الأسرى المعزولين من أصيب بأمراضٍ نفسية، كالاكتئاب والأرق الدائم، وعدم القدرة على النوم، والمعاناة من الهواجس والأحلام المخيفة والمزعجة والكوابيس، وفقدان الذاكرة الكلي والجزئي، وتزايد الرغبة لديهم في العزلة والعيش وحيدين، وأمراض التبول اللا إرادي، والتوهان والسرحان وفقدان التركيز، ولعل هذا النوع من الأمراض ينشأ بسبب التعذيب الشديد، والعزل في الزنازين لفترات طويلة، فلا يكون فيها مع الأسير أحدٌ يحدثه أو يتسامر معه، ليخفف من معاناته، وليمزق حالة الصمت والفراغ التي يعيشها، علماً أن بعض الأسرى يقضون معزولين في زنازينهم سنين طويلة.
وقد تكون زنازين العزل قريبة من زنازين العملاء والجواسيس، الذين تعزلهم سلطات السجون عن المعتقلين، وتحول دون أي احتكاكٍ بينهم وبين المعتقلين مخافة قيام المعتقلين بقتلهم، وكون المعتقل المعزول موجود بالقرب من إكسات وزنازين العملاء، وهو في حالة عزلٍ كامل عن بقية المعتقلين الوطنيين، فإن هذا الأمر قد يؤثر على نفسيته ويتعبه، وقد يشعره بالكثير من الإحباط والأسى والحرج، ذلك أن الاقتراب من العملاء معرة، والتعامل معهم معيب، والاقتراب منهم سبةٌ وإهانة، والاختلاط فيهم شبهةٌ، وقد تترك فترة العزل على نفسيات المعتقلين المعزولين أثراً سيئاً قد يمتد لسنواتٍ بعد الإفراج أو خلال فترة وجودهم في الأسر.
تخصص المخابرات وجهاز مصلحة السجون الإسرائيلية زنازين خاصة لعزل الأسرى والمعتقلين في جميع السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وتمتاز زنازين العزل بضيقها وصغر مساحتها، وتكون غالباً في أماكن بعيدة عن تجمعات المعتقلين، بما لا يتيح أي فرصة للتواصل بينهم أو الاحتكاك بهم.
يتم العزل غالباً في زنازين خاصة تسمى “الإكسات”، والإكس هو أحد مصطلحات المعتقلين التي أنتجها واقع السجن والاعتقال، وتكاد تكون هذه المفردة خاصة كلياً بالسجون والمعتقلات، إذ لا استخدام لها خارج إطار السجن، وهي مفردة تطلق على الزنزانة الصغيرة جداً التي يوضع فيها الأسير، إما للعقاب أو لممارسة المزيد من الضغط عليه أثناء التحقيق، وهي صغيرة الحجم ولا تتسع لأكثر من أسيرٍ واحد، وتخلو من مرحاضٍ أو مكانٍ لقضاء الحاجة، ويوضع فيها أحيانا “تنكة” أو جردل “دلو” لقضاء الحاجة، ويوجد في بعضها صراصير وجرذان وحشرات، وبعض الإكسات التي تستخدم للتحقيق يوجد فيها مرابط حديدية لتقييد أيدي وأرجل الأسير، وغالباً تكون في مناطق معزولة عن أقسام السجن، بحيث تزيد في الرهبة والرعب والخوف في نفوس المعتقلين المعزولين والمعاقبين.
ولا يسمح فيها للأسير المعزول بالخروج إلى الفورة، أو للتعرض إلى أشعة الشمس سوى لفترةٍ زمنية قصيرة، وبموجب مواعيد تحددها وتقررها إدارة السجن، ويخضع الأسير في هذه الحالة إلى شروط وإجراءات قاسية جداً تجعل من الخروج إلى الفورة شكلاً من أشكال التعذيب والإهانة، وقد يجد الأسير نفسه أحياناً مضطراً لرفضها بسبب المضايقات القاسية التي يتعرض لها، حيث يقيد بالسلاسل من يديه ورجليه، ويتعرض طوال فترة الفورة إلى مضايقاتٍ شديدة واستفزازات وركلٍ وضربٍ وشتمٍ من قبل الحراس والسجانين.
الإكسات التي تحمل معاني العزل الانفرادي والقيد والسلاسل، والتي تكون بعيدة تماماً عن أقسام السجون، وحركة المعتقلين اليومية والاعتيادية، وقد تكون على هيئة أقبية أو قبور تحت الأرض، تعني العزل التام عن التواصل مع الآخرين، أو الاحتكاك بالأسرى والمعتقلين، حيث تقتصر علاقة الأسير المعزول على الجنود والحراس الإسرائيليين، الذين يحضرون له الطعام والشراب، ويسوقونه من وإلى زنزانته، كما لا يسمح له بمشاهدة القنوات التلفزيونية، أو قراءة الصحف، أو إدخال الكتب على اختلافها، وفي أضيق الحالات يسمح للأسير بإدخال القرآن الكريم فقط.
وتتفاوت فترات إقامة الأسرى المعتقلين في الإكسات، إذ يقضي بعضهم فترات عقوبة محدودة وقصيرة تمتد لأيامٍ معدودة، فيما يسمى بالعقوبة المسلكية، يعودون بعدها إلى غرفهم وأقسامهم، ولكن بعض المعتقلين، وخاصة رموز وقادة العمل الوطني في السجون، فإنهم يقضون في الإكسات فتراتٍ طويلة نسبياً، قد تصل أحياناً إلى سنوات، حيث يكونون في حالة عزلٍ انفرادي تام، لا يرون أحداً، ولا يحتك أو يختلط بهم أحد، ويكونون أحياناً مقيدي الأيدي والأرجل بسلاسل وأغلالٍ قد تطول أو تقصر، ولكنها دائماً مشدودة إلى جدران الإكسات، بحيث تجعل الحركة محدودة مهما كانت متاحة نسبياً.
وتشتهر بعض السجون والمعتقلات بإكساتها، حيث يتم أحياناً نقل المعتقل من سجنه إلى إكسات سجنٍ آخر، بحيث تتحقق فيها عملية العزل التامة، فلا يعرف أحدٌ مكانه، ولا تصل إليه أي معلومات أو أخبار أو رسائل، ولا يتمكن أهله من زيارته، ولا المحامين من الالتقاء به.
يخضع المعتقل المعزول خلال فترة التحقيق، إلى عمليات مراقبة ومتابعة دقيقة، في محاولة من المحققين للانقضاض عليه في الوقت المناسب، الذي يرون فيه أنه تهاوى وضعف، ولم تعد لديه قدرة على الصمود أو تحمل المزيد من العذاب، وأنه قد دخل فعلاً في حالةٍ من الاكتئاب واقترب من الانهيار، حيث يتم نقله وهو على هذه الحال إلى التحقيق من جديد، مستغلين حالته النفسية والجسدية السيئة.
ما زالت معركتنا مع العدو الصهيوني على أرض فلسطين كلها قائمة، وهي في السجون والمعتقلات محتدمة، وهي أشد ما تكون ضراوةً مع المقاومين الأبطال، والفرسان الشجعان، الأسرى البواسل، الذين أوجعوا العدو وأدموه، ونالوا منه وأبكوه، وما زالوا في سجونهم أبطالاً شامخين، ورجالاً واقفين، ورموزاً صامدين، فلا يجد العدو غير العزل وسيلةً للنيل منهم والتأثير عليهم، وما ظن أن النظام العنصري في جنوب أفريقيا، الذي سبقهم في السقوط والإنهيار، قد هزم أمام صمود الأسير الأشهر، والمعزول الأطول نيلسون مانديلاً، وما هو إلا كيانٌ عنصريٌ بغيض، سيسقط لا محالة كما سقط العنصريون قبله، أمام إصرار الطفل الأسير، والمرأة الباسلة، والشعب الصابر، والمقاوم الفلسطيني البطل الهمام.